بسم الله الرحمن الرحيم
لنكف عن التنظير.. ولنصغ للواقع أكثر مما يجب
يوسف الديني
لماذا هذه الفجوة بين ما نؤمن به من تصورات ، وبين ما نقدمه من برامج واستراتيجيات على الواقع كتطبيق عملي لقيمنا ومبادئنا ... سؤال قد يبدو باهتاً ومكرراً من كثرة ما يحاصرنا لا سيما من الآخر الذي احتار في محاكمتنا بين مثالية النظرية التي نستند إليها وبين عدم وجود أي أثر لها في الواقع المعاش، ومع ذلك سيظل السؤال عن الهوة السحيقة بين واقعنا، وبين تنظيراتنا السياسية والحقوقية والإنسانية سؤال الأسئلة الذي يتضخم يوماً بعد يوم، كلما انهالت سهام الواقع المرير على جسد العالم العربي والإسلامي، وهو سؤال مهم بدا هامشياً من الضخامة والتعقيد والتشابك التي تتطلب طرحه على جميع المستويات، للخروج من الأزمة التي تحدق بنا وباتت تحاصر واقعنا على أكثر من مستوى، وتبعث على الكثير من اليأس والإحباط وغير ذلك من المشاعر السلبية المتراكمة، والتي ستترك ولا شك آثاراً نفسية واجتماعية بعيدة الغور، وهو الأمر الذي يتطلب وعياً جماعياً وإفاقة عامة، تنطلق من إدراك حقيقة الواقع بكل حمولاته السلبية، بحيث يساهم الجميع، مثقفون وتربويون وعلماء ودعاة ، في التنبيه على مكامن الخلل لواقعنا، على أن يكون التشخيص دافعاً للتغيير والإحساس بالمسؤولية بشكل دائم مستمر، وليس مجرد جلد للذات أو التألم والشعور بالندم. يجب أن يكون التشخيص سليماً بعيداً عن التناول العاطفي الذي يتكئ على فضاء النظرية وجاذبيتها، ويحاول دغدغة المشاعر والإحساس، من خلال الاستدعاء التاريخي للأمجاد التي كانت لنا فيها أيام!.
إن التناول العاطفي لمشكلاتنا المعقدة هو أول الأخطاء التي نرتكبها، حين نحاول الخروج من نفق الواقع المظلم، هذا التناول العاطفي تجده في الخطاب الديني السائد الذي يحصر المشكلة في الرجوع إلى ما كان عليه الأسلاف هكذا بإطلاق، وفي الخطاب القومي الذي يتباكى على أمة مجيدة تليدة، وفي الخطاب اليساري الذي لا يزال ينتظر حتمية التاريخ المؤجلة، وحتى في بعض الخطابات الليبرالية التي بدت تنحو إلى اللاواقعية، وهي تؤمل في أغلبية صامتة متوهمة.. المشترك بين هذه الخطابات هو الاستناد على قداسة النظرية الخاصة بها وصوابها وتدعيم ذلك بوقائع تاريخية...
وإذا كان هذا الخدر اللفظي الذي نحاول بها إيهام أنفسنا يمكن أن يكون مبرراً إن صدر من الذين لا يمتلكون أياً من وسائل التأثير، ولا يشكلون سلطة معرفية أو علمية على سائر فئات المجتمع؛ فإنه خطأ منهجي كبير لا يليق بالمصلحين والدعاة وأصحاب التأثير الإعلامي الذين على عواتقهم مسؤولية عظيمة تجاه قضايا أوطانهم ومجتمعاتهم، حيث يتنظر منهم فعل الأصلح وقول الحقيقة والبحث عن الحلول الناجعة ووضع الأمور في نصابها، دون الانسياق وراء رغبات الجماهير واندفاعهم، أو الانكفاء على المكاسب الشخصية التي ربما تبددت وذهبت أدراج الرياح.
إن هذه الشفافية التي تتطلب وقفة مراجعة وتصحيح بحجم الإشكاليات والأخطاء النظرية والعملية التي تمر بها التيارات المؤثرة في المشهد الفكري في العالم العربي والإسلامي، لا تخص فقط الأحداث الأخيرة لما يجري في العراق أو في فلسطين أو ملفات الإرهاب والإصلاح والحقوق والتعددية والاعتدال الديني، بل يجب أن يطال عموم تجربة هذه التيارات الفاعلة في الواقع التي يجب أن لا تمضي سادرة في تكرار أخطائها دون أن يكون لها من نفسها رقيب، فضلاً أن تستفيد من العيوب التي تهدى إليها من خصومها وناقديها، فأوضاع المنطقة تتطلب شجاعة نقدية بحجم الشجاعة التي نبديها في ترسيخ الأوهام.
نشر المقال بجريدة الشرق الأوسط العدد 9810