موضوع الحلقة: النعمة
قال تعالى: (( صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الظالين)) سورة الفاتحة.
جاء في لسان العرب:
نعم: النَّعِيمُ والنُّعْمى والنَّعْماء والنِّعْمة، كله الـخَفْض والدَّعةُ والـمالُ، وهو ضد البَأْساء والبُؤْسى. وقوله عز وجل: {ومَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّه من بَعْدِ ما جاءته} يعنـي فـي هذا الـموضع حُجَجَ اللَّه الدالَّةَ علـى أَمر النبـي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالـى: {ثم لَتُسْأَلُنَّ يومئذ عن النعيم} أَي تُسْأَلون يوم القـيامة عن كل ما استمتعتم به فـي الدنـيا، وجمعُ النِّعْمةِ نِعَمٌ وأَنْعُمٌ كشِدَّةٍ وأَشُدَ؛ حكاه سيبويه؛ وقال النابغة:
فلن أَذْكُـرَ النُّعُمـان إِلا بصـالـحٍ
فـإِنَّ لـه عنـدي يُـدِيّـا وأَنْعُـمـا
و النعمة في الحقيقة سعادة في الآخرة، و ما عدا ذلك من مطلوب الحياة يجوز تسميته بالنعمة كالعلم و حسن الخلق، و عافية الصحة... و ما أشبه ذبك.
قال ابن قدامة رحمه الله : أن النعم تنقسم على ما هو غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هو مطلوب لأجل الغاية. أما الغاية فهي سعادة الآخرة، و يرجع حاصلها لإلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له، و سرور لا غم فيه، و علم لا جهل معه، وغنى لا فقر بعده، وهي السعادة الحقيقية. أما القسم الثاني: فهو الوسائل إلى السعادة المذكورة، و هي أربعة أقسام:
أعلاها: فضائل النفس، كالإيمان، و حسن الخلق.
الثاني: فضائل البدن، من القوة و الصحة و نحوها.
الثالث: النعم المطبقة بالبدن، من المال و الجاه والأهل.
الرابع: الأسباب التي جمع بينها و بين نا يتناسب الفضائل، من الهداية و الإرشاد، و التسديد، و التأييد، و كل هذه نعم عظيمة.
و نعم الله كثيرة لا حصر لها، إلا قصور عقل البشر لا يسمح بإدراكها، و النظر إليها بعين الاعتبار. فوجب على العبد في هذا المقام الشكر و الحمد على نعم الله الظاهرة و الباطنة. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: التحدث بالنعم شكر، و تركها كفر).وقال الحسن البصري: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبا عذابا و لهذا كانوا يسمون الشكر(( الحافظ))، لأنه يحفظ النعم الموجودة، (( و الجالب))، لأنه يجلب النعم المفقودة. و قال عمر بن عبد العزيز: قيدوا نعم الله بشكر الله.و كان يقال: الشكر قيد النعم.
وشكر النعم يبسط على صاحبه النعم، و رضا الله عليه فقد قال فضيل بن عياض: كان يقال: من عرف نعمة الله بقلبه، و حمده بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة، لقوله تعالى: (( لئن شكرتم لأزيدنكم)) سورة ابراهيم. و قال الحسن: إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر، فإذا شكروه كان قادرا على أن يزيدهم، و إذا كفروه كان قادرا على أن يبعث نعمته عليهم عذابا.
قال ابن أبي الدنيا أنشدني محمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة
علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله
و إن طالت الأيام و اتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها
و إن مس بالضراء أعقبها الأجر
و ما منها له فيه منة
تضيق بها الأوهام و البر و البحر
أما الغفلة على النعم فلها أسباب :
أن الإنسان لجهله لا يعد ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة فلذلك لا يشكرون على جملة مما ذكرناه من النعم.فلا ترى البصير يشكر صحة البصر إلا أن يعمى، فإذا أعيد بصره أحس بفضل النعمة وشكر.
فإن من اعتبر حال نفسه، و فتش على ما خص به، و جد لله تعالى عليه نعما كثيرة، لا سيما من خص الإيمان، والقرآن، و العلم، و العقل، ثم الفراغ و الصحة، والأمن، و غير ذلك، و قد قال بعضهم:
إذا القوت يأتي لك
في الصحة و الأمن
و أصبحت أخا حزن
فلا فارقك الحزن.
و عند رجوعنا إلى الآية الكريمة من سورة الفاتحة نجد أن الله عز و جل قال الذين أنعمت عليهم)) و لم يقل ( المنعم عليهم)، كما قال : (( المغضوب عليهم))، وهذا لأن أفعال الإحسان و الرحمة و الجود تضاف إلى الله عز و جل، فيذكر فاعلها منسوبة إليه و لا يبنى الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بافعال العدل و الجزاء و العقوبة حذف الفاعل و بني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب ، و إضافته إلى الله أشرف، فسمى أفعاله. و هذا ما ذكره ابن القيم في كتاب بدائع الفوائد في قوله: ( فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه و لم يحذف فاعلها، و لما ذكر الغضب حذف الفاعل و بني الفعل للمفعول، فقال المغضوب عليهم)). قال في الإحسان (( الذين أنعمت عليهم).