النص التاريخي وإشكالية التوظيف في الكتاب المدرسي
نموذج كتاب في رحاب التاريخ الجذوع المشتركة للتعليم الثانوي التأهيلي
جذع الآداب والعلوم الإنسانية.
الوحدة السابعة من المجزوءة الأولى: التطورات السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي .
ذ.يحي بولحية
"يعتبر كتاب التاريخ المدرسي مادة أساسية في التكوين الفكري والمعرفي للمتعلم، و ذلك بتنمية ذكائه الاجتماعي وحسه النقدي، وتزويده بالأدوات المعرفية والمنهـجية لإدراك أهـمية الماضي في فهـم الحاضر و التطلع إلى المستقبل، وتأهيله لحل المشاكل التي تواجهه."
ذاك ما تذكره البرامج والتوجيهات التربوية لمادة التاريخ والجغرافيا ، فتاريخ المغرب مثلا هو الذاكرة والخزان الاستراتيجي للحظات القوة والوهن التي رافقت بناء الدولة والمجتمع على امتداد عصور تاريخية طويلة. ويفترض في المتعلم، اعتمادا على هذا المبدأ، أن يتعرف على تاريخ بلده لأن الشاعر يقول:
ومن وعى التاريخ في صدره فقد أضاف أعمارا إلى عمره
"و تعتبر النصوص من أهم الدعامات الديداكتيكية لكونها تضمن الحضور الذهني للمتعلم أثناء الدرس، وتضعه في مناخ العصر الذي يدرسه حينما يتعلق الأمر بمادة التاريخ، وتوفر له مادة معرفية للاشتغال عليها."
وإذا كان الإطار النظري نظم شكل التعامل مع النص التاريخي بوضعيات مختلفة ومتباينة فإن الكتاب المدرسي حاول تمثل هذه التوجيهات واقتفاء أثرها وخطواتها الديداكتيكية.
"ولا يرمي توظيف النص في تدريس المادة بالتعليم الثانوي التأهيلي إلى مجرد استخراج مجموعة من المعلومات والأفكار عن حقبة زمنية معينة أو حدث ما، ولكنه يستهدف إكساب المتعلم مهارات وتقنيات تمكنه من إنتاج المعرفة وتنظيمها."
ونعتقد أن مهارات قراءة الوثيقة التاريخية وتحليل مضمونها ونقدها ومقارنتها مع غيرها جزء أساس في بناء واستثمار درس الكفايات التربوية والتعليمية.
ومن" أهم المواصفات التي ينبغي توفرها في النصوص التاريخية من أجل استغلالها استغلالا ديدكتيكيا مناسبا :
*معاصرتها للأحداث - ما أمكن - أو قريبة منها لتكتسب أهميتها العلمية.
*مناسبتها من حيث الحجج والمضمون، بالتركيز على الفقرات الأساسية ودون الإخلالبمعناها العام أو الوظيفة التي أعدت من أجلها."
ومن خلال قراءة سريعة في المصادر والمراجع التي اعتمدتها وحدة الكتاب المدرسي المبينة أعلاه، تحضر الكتابات الحديثة المعاصرة بشكل كثيف مما يفقد النص التاريخي قيمته ودلالاته الرمزية والمعرفية .
وفي الوحدة التي اخترناها للاختبار والتقويم نجد المراجع المعصرة الآتية :
-1-كتاب هاملتون جيب وهارولد بوين المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة عبد المجيد القيسي ..ص77 من الكتاب المدرسي ،
و-2- كتاب عصام خليف ، الضرائب العثمانية في القرن 16 ...ص79 من الكتاب المدرسي،
و-3-كتاب مصطفى عبد الله الغاشي، العثمانيون والعالم المتوسطي ..ص:79،
و-4-كتاب عبد اللطيف أكنوش، السلطة والمؤسسات السياسية في مغرب الأمس واليوم...ص:83،
و-5 -كتاب نور الدين حاطوم ، تاريخ عصر النهضة الأوربية..ص:86
لا تمنح الكتب الخمسة المسجلة قيمة تاريخية مضافة باعتبار بعدها الكبير عن الفترة التي أرخت لها. وقمين بكتاب مدرسي يلقن المهارات التي ذكرتها التوجيهات التربوية، أن يقصر جهده في توظيف المصنفات التاريخية المعاصرة للأحداث أو القريبة منها، وتمكين المتعلم، بالتالي، من اتخاذ وضعيات مناسبة أثناء عمليات التحليل والاستنتاج والتأويل والتركيب.
ومن أبرز مراقي استثمار النص التاريخي مرحلة النقد والتأويل والمقارنة بين النصوص واستنتاج أوجه الاختلاف بين المصادر التاريخية حول قضية مشتركة.
وفي هذا الإطار أورد الكتاب المدرسي نصا لمحمد الصغير الوفراني من كتاب نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي ورد فيه ما يلي:
" وكان المنصور على ما هو عليه من ضخامة الملك وسعة الخراج ، يوظف على الرعية أموالا طايلة ، يلزمهم بأدائها وزاد الأمر على ما كان عليه الحال في عهد أبيه...وكانت الرعية تشتكي منه ونالها إجحاف منه ومن عماله."ص82 من الكتاب المدرسي
وقد وظف النص لاستثماره في بناء معلومات تتعلق بالسياسة الجبائية لأحمد المنصور.وأثيرت أسئلة أسفل النص توجه التلاميذ إلى استنتاج ردود فعل السكان تجاه سياسة أحمد المنصور الجبائية. وكان من المفروض أن يتم التعريف بالإفراني مثلما تمت الترجمة لمؤرخين آخرين في نفس الوحدة ومنهم الحسن بن محمد الوزان وأحمد بن القاضي، لمعرفة درجة صدقية الخبر التاريخي لدى صاحب النزهة.
إلا أن ما يثيرالتساؤل في الوحدة المدروسة إيرادها، بعد أربع صفحات، نصا لأحمد ابن القاضي صاحب كتاب المنتقى المقصور على مآثر الخليفة المنصور.ص:87، وورد فيه :
"وأما ماجرت به عادة أهل المشرق ...من توظيف الأمكاس على أموال التجار عند الوصول إلى كل مدينة ...فليس في بلاده، أيده الله تعالى، شيئ من هذا القبيل أصلا حتى إن الإنسان يكون في أحماله من التبر والياقوت ولا يخشى عليهما في الطريق شيئا، ولا يعطي على ذلك كله إلا ربع درهم على كل حمل في باب المدينة، فهذا ما تشرف به المغرب على كل الأقطار ...فقد طهر إمامنا ومخدومنا مملكته من هذه النقيصة العظيمة التي عمت بها البلوى وحصل بها في الإسلام دهية دهياء."
يتحدث النصان عن السياسة الجبائية في عهد المنصور ووردت مجملة لدى صاحب النزهة ، وخصصها ابن القاضي بذكر مسألة التجارة.
وتضعنا المعلومات التي أوردها ابن القاضي أمام سؤال مدى صدقية النبأ التاريخي الذي أورده بمقارنته مع نص الإفراني السابق، فإذا كان هذا الأخير قد وصف السياسة الجبائية لأحمد المنصور بالمتشددة، فإن صاحب المنتقى المقصور أكد على العكس من ذلك على وجود سياسة جبائية مرنة وغير مسبوقة في العالم الإسلامي آنئذ.
وقد وظف النص الأخير لتحديد طبيعة الوضع الاجتماعي في المغرب مقارنة بالمشرق، ولم توضع أسئلة تشكك فيما ذهب إليه من أقوال، وخاصة أن الكتاب المدرسي عرف بابن القاضي وباليد البيضاء التي كانت للمنصور عليه عندما افتداه هذا الأخير من الأسر.
ومن هذه الزاوية نعتقد أن توظيف بعض النصوص لم يكن مناسبا مع منطق الكفايات التعليمية، فإذا كان التلميد يدرس مادة التاريخ بالتحليل والاستنتاج منذ المرحلة الابتدائية والإعدادية، باستثمار الوسائل الديداكتيكية المختلفة وفي مقدمتها النص التاريخي، فإن مرحلة الثانوي التأهيلي تفرض ضرورة تحفيزه على ممارسة النقد بالمقابلة بين النصوص والخروج باستنتاج ذاتي ومده بالآليات التي تمكنه من الوصول إلى هذا المرقى التعليمي.
وكان من الأولى أن يتم تسجيل النصين في صفحة واحدة والتعريف بكل من الإفراني وأحمد بن القاضي
وترك الفرصة أمام التلاميذ للموازنة بين النصين وترجيح أحدهما على الآخر باعتبار موقع المؤرخين من دائرة السلطة السياسية على امتداد فترتين زمنيتين مختلفتين. فإذا كان الإفراني قد عاش في عهد المولى إسماعيل متحررا من كل رقابة على مدوناته التاريخية وبمنأى عن الضغوط المعنوية، فإن ابن القاضي الذي افتداه المنصور من الأسر لم يكن متوقعا منه إنتاج غير النص الذي أوردناه سالفا.
نحتاج في منظومتنا التعليمية إلى تمرين التلاميذ على امتلاك ناصية الفهم الدقيق للوثيقة التاريخية وتحليل مضامينها والمقابلة بين أضدادها ، ومن شأن ذلك أن ينمي لديهم قيما تواصلية أساسية في حياتهم اليومية وفي التعامل الرصين مع الأخبار المتعارضة وممارسة دور المواطن الواعي بدوره ومكانته في مجتمع مستهلك للمعلومة تتقاذفه الخطابات والشعارات.
إن النقد الواعي والإيجابي مفتاح أساس لممارسة المواطنة الفاعلة للانفتاح على منطق التعدد والاختلاف والتمييز بين مصادر إنتاج الخبر التاريخي والسياسي.