قال القرطبي: وصف الله سبحانه وتعالى شدة الموت في أربع آيات:
الأولى: قوله تعالى: ﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق﴾ .
الثانية: قوله تعالى: ﴿ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت﴾ .
الثالثة: قوله تعالى: ﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم﴾ .
الرابعة: قوله تعالى: ﴿ كلا إذا بلغت التراقي﴾ .
روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة أو عُلبة فيها ماء. فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم نصب يديه فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قُبض ومالت يده." [1]
وخرج الترمذي عنها قالت: "ما أغبطُ أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم" [2] .
وذكر المحاسبي في "الرعاية": أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: "يا خليلي كيف وجدت الموت؟" قال: "كسفود محمَّى جُعل في صوف رطب، ثم جُذب". قال: أما إنَّا قد هوَّنا عليك يا إبراهيمُ".
وروي أن موسى عليه السلام لما صار روحه إلى الله، قال له ربه: "يا موسى كيف وجدت الموت؟" قال: "وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يُقلى على المِقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير".
وروي عنه أنه قال: "وجدت نفسي كشاة تُسلخ بيد القصّاب وهي حية".
وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: "يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهوِّن عليكم هذه السكرة" يعني .. سكرات الموت.
فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين، والأولياء والمتقين. فما بالنا عن ذكره مشغولين؟ وعن الاستعداد له متخلفين؟ ﴿ قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون﴾ قالوا: وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شداد الموت وسكراته، فله فائدتان إحداهما: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقا ويرى سهولة خروج روحه، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت، ولا يعرف ما الميت فيه؟ فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم: شدة ألمه، مع كرامتهم على الله تعالى وتهوينه على بعضهم، قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه ويقاسيه الميت مطلقا لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار على ما يأتي ذكره، الثانية: ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء: أحباب الله، وأنبياؤه ورسله، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة؟ وهو سبحانه قادر على أن يخفف عنهم أجمعين، كما قال في قصة إبراهيم: "أما إنا قد هوَّنا عليك". فالجواب: "أن أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" كما قال نبينا عليه السلام. –خرَّجه البخاري وغيره- فأحب الله أن يبتليهم تكميلا لفضائلهم لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، مع رضاهم بجميع ما يجري الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم.
كما ابتلى إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار، وعيسى بالصحاري والقفار ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم وكمال في درجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخطئين فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم فلا نسبة بينه وبين هذا.
من كتاب (الدار الآخرة) للشيخ محمد متولي الشعراوي، ج1، ص: 84.