قــصــــــة قـصيـــــرة بقلم عبد الله الداودي
منذ أيام ، و صلتني رسالة عبر البريد .أيقظت في دواخلي تلك الأحاسيس والمشاعر الدافئة التي كانت تغمرنا من حين لحين ، كان ذلك قبل أن تحل بنا لعنة الهاتف المحمول ولعنة الرسائل الإلكترونية الجافة. تدفقت إلى مخيلتي ذكريات الماضي البعيد. تذكرت الرسائل التي كانت تصلني الى القسم الداخلي أيام الدراسة في الثانوية ، كنا ننتظر بلهفة طفولية موعد توزيع الرسائل . ننصت باهتام بالغ لمعلم الداخلية وهو يقرء الأسماء على الأظرفة.
عاودني ذلك الشعور اللذيذ الذي كان ينتابني وأنا أقرأ كلمات رقيقة من فتاة جمعتني بها لحظةعابرة.أذكركيف كنت أتبـاها بها وأرددها أمام الأصدقاء والخصوم من تلاميذ القسم الداخلي، أ و أتخذهامقدمة لأحكي عن مغامراتي وبـطولاتي الغرامية العديدة والتي غالبا ما تكون من نسج الخيال.
استرجعت أيضا رسائل أمي التي كانت تبعثها بخط ابن جارتنا من البادية، تحثني فيها على المثابرة ،وتعدني بالمكافئة متى استطاعت الوصول خلسة إلى جيوب أبي.
بفرح غامض ممزوج بنوع من التوجس أخذت اتفحص الرسالة. اسمي و عنواني مكتوبان بجلاء على ظهرها واسم المرسل لم يكن سوى صديق طفولتي الحميم الذي انقطعت بيني وبينه الأواصر منذ زمن بعيد ،أي منذ التحاقي بمدرسة تكوين الاساتذة قبل عشر سنوات وقد بلغني في المدة الأخيرة انه أصيب بالمرض الخبيث .
فتحت الرسالة ورحت أسارع بقراءةها و كانني اريد ان اطلع على مضمونها دفعة واحدة ، توقفت عند هذه الكلمات :
... أنا الآن في القرية ، وقد عدت الى بيت والدي بعد ان استسلمت للمرض، لم احمل معي من المدينة غير أوراق الفحوصات والتحاليل الطبية...أنهيت دراستي الجامعية و تعبت كثيرا في البحث عن عمل قار، مللت من التسكع بين المقاهي و الأماكن العمومية.و خلال السنوات الأخيرة تدهورت حالتي الصحية بشكل كبير. تجولت بين العديد من المستشفيات والعيادات الطبية ، لكن دون جدوى .كل ما ادخرته من بيع الجرائد كان من نصيب الاطباء والممر ضين وفي الأخير رجعت إلى أهلي في البادية وأنا اعلم جيدا أنهم لا يملكون من أجلي غير الدعاء.
.... لن أنسى يا أخي أبدا وجه ذلك الطبيب بملامحه الصارمة وهو يقرأ بصمت مريب نتائج الفحص الطبي، قبل أن يصدمني بلغة تقريرية قاسية..
... ها قد مضى زمن غير يسير وأنا طريح الفراش ،أرقب هذه الجدران القاتمة المنتصبة حولي في صمت رتيب...
كان لهذه الكلمات وقع الصدمة على نفسيتي ، تذكرت آخر لقاء بيننا ، كنا نستقل الحافلة المتجهة الى مدينة فجيج لاستلام شهادة الباكالوريا . طوال الطريق كانت فرحة النجاح تغمرنا ، كنا مثل طفلين نلهو و نضحك ، وكان الامل في مستقبل سعيد يداعب خيالنا ، لا ازال اذكر انه كان يرسم معالم حياة المستقبل ، كان يحلم بو ظيفة محترمة وزو جة و بيت في احدى مدن الاطلس التي كانت تلهب خياله . تدفقت الدموع الى عيني ، وشعرت بغصة تخنقني ، و قد زاد تأثري وانا أقر هذه الكلمات من رسالته:
ما يحز في نفسي أن الكثير من أصدقاء الأمس لم يعد لهم وجود في يوميات معاناتي مع المرض، وحدهما والدتي وأختي الصغيرة لا تملان من الجلوس إلى جنبي لكن دموعهما و نظراتهما تؤلمني كثيرا...
....سئمت علب الادوية والمسكنات و أوراق الجرائد القديمة المتناثرة حولي اما الروايات وأغاني ام كلثوم فلم تعد تستهويني كما كانت ، بدأت قراءة رواية بعنوان السراب لكنني توقفت دون ان اتجاوز بضع صفحات .أرسل لي أحد الأقارب رواية حينما علم بمرضي ، وجدت انها تتحدث عن شخص مصاب بالمرض اللعين ، طلبت من امي أن تمزقها و تحرقها في الموقد ....احد الممرضين قال لي ذات يوم وهو ينظر الى كتاب في يدي أنني مصاب بمرض الأدباء الكبار أمثال محمد شكري و محمد زفزاف و حاول ان يتذكر آخرين ، كان يريد الرفع من معنوياتي على ما يبدو لكن كلامه أزمني كثيرا .
..... ما أصعب اللحظات التي أعيشها يا أخي إنها لحظات صراع دائم مع الألم تتخللها أيضا فترات تأمل لا أدري لماذا أشعر خلالهابالحنين إلى زمن الطفولة.
توقفت عن القراءة ،و رجعت بخيالي إلى أيام الصبا ، أيام الشغب و الشيطنة : كنا نتسلق الجدران القديمة للبحث عن أعشاش العصافير أو نسطو ليلا على حقول الذرى و أشجار اللوز و الرمان لنملأ جيوبنا بالثمار التي لم تنضج بعد . لم نكن نعرف معنى المرض ولا حتى التعب ، لا نأوي الى بيوتنا حتى يأتي من يبحث عنا من اهلنا .
طاوعت خيالي للحظات فعاد بي إلى تلك الأيام التي لا تكاد تخلو من وجود هذا الصديق ، لكن ما لبثت ان عدت الى الرسالة التي بين يدي لقراءة اسطرها الأخيرة .
.....أنا الآن وقد نال مني التعب ، و عاودني الألم ، أستسمحك ، و أتمنى ألا أكون قد أخذت كثيرا من وقتك ، أعدك أنني ساكتب لك مرة اخرى . مع اطيب التحيات وأصدق المتمنيات .
كان وقع الرسالة علي شديدا شعرت معه بنوع من الأسى و الأسف و تأنيب الضمير . فكرت في الذهاب لعيادة صديقي المريض ، ومواساته و الوقوف بجانبه في محنته ، لكن المشاغل اليومية والتزامات العمل جعلتني أتريث . بعد لحظة تردد قررت ان ارجئ موعد الزيارة الى عطلة نهاية الاسبوع .
في اليوم الموالي بينما كنت أقرأ الجريدة سمعت رنة الهاتف في جيبي ، تنبهني الى وصول رسالة قصيرة. فتحت الرسالة ، وقرأت فيها خبر وفاة صديقي نزل علي الخبر مثل الصاعقة ، وعلى الفور ألغيت كل التزاماتي ، وقصدت محطة الحافلات يحذوني الأمل في أن أ رى ذلك الصديق بعد موته ، إذ لم تمهلني الأقدار لرِِؤيته في حياته .
بعد رحلة مضنية على متن أول حافلة وصلت الى بيت العزاء . كان البيت لا يزال غاصا بالرجال والنساء والاطفال ، كان الحزن يخيم على المكان ولم يكن ثمت وجه أكثر حزنا وكآ بة من وجه الام .
واسيت الأب والإخوة وقبلت رأس الأم المكلومة ، بدورها عانقتني حتى احسست بالدموع تبلل خدي .
علمت ان الراحل ووري الثرى قبيل وصولي . وقد عاد الموكب عاى توه من مراسم الدفن .
بعد الإستئـذان دخلت غرفة الراحل ، كان فراشه و كل أغراضـه شاهـدة على رحيله :
قلم و أ وراق الجرائد وكتب وعلب الدواء . .
إنتبهت الى وجود كتاب طويت إحدى أوراقه ، تصفحته فإذا هو رواية السراب وقد توقف الراحل عن قرائتها قبل أن يتم فصلها الأول . كان الصمت يلف الغرفة و كانت كل الأشياء التي تؤثث المكان كئيبة ، و كانت جدران الغرفة قاتمة ، تلك الجدران نفسها التي كان الراحل يتأملها وهو يكتب لي رسالته الأخيرة .
[email protected]
بوعرفة في 30 ابريل 2009