رجل مغبون بعبثية الحياة

[أبوياسر المغربي]

رجل مغبون بعبثية الحياة

الإهداء : إلى لا أحد

أسقط القناع ، وبقي قابعا يحتسي قهوته السوداء ، والأفكار تعج كأسراب اللحظات ، لتأخذ شكل الماء، فتنسكب في جمجمته المنخورة ، وتسيل ، لتتركه فريسة لقدر ما يزال يستجمع قواه،ليصفعه بأيادي الندم الطائشة.
لم يكن عاشق للوهم ، ولكن أفضى كل ذكرياته لسهراته الليلية ، التي لم ترحب إلا ببخوس رجل المواقف الغامضة ، وجسد المرأة الذي اكتراه من سوق الليل ، تلك المرأة التي خانت شرفها وتبرزت على وشاح الرهبان ، وراحت تطوح بحضنها بين رواد الشهوة العارمة .
لم يقل ....
أنا وجه الليل الذي يمتطي فرس أشباحه ويغيب في الهزيع ، حيث المرأة التي تنقر العصافير حلمتا ثدييها ،تتعتعت من سكر اللذة المشوب بهوج الأنين الصادر من اصطدام الكواكب المختفية وراء العتمة.
ولكن ، وبنبرة واجفة تحتسي كل الأحاسيس التي ادخرتها للقاءاته المتواشجة في رحم اللحظة العذراء التي لم تزف بعد لسارق الأمل ، استطرد بآخر شهقات بكائه :
.......تصير العيون ذبلى عند رحيلك ، وتموت جوارح الجسد المنهوك في أتون شهوة الالتياع،لذلك نحت اسمك على جدار قلبي، وتهت في تضاريس جسدك المشتهى ، ولم أنتبه ، وأنا أنصهر في متاهات اللذة ، حتى استفاقت حواسي في أحراش مسار تائه ، على نوبات جنون رمتني في زحام الإمتاع ، وتمتمت :
.......تمائم عينيك أرجوحة قلب مخدوع بشبق مكتوم ، في مزاد علني لفرسان رامبو ، وترسانة جسدك المنحوت بشهوة الملتاع ، تنتزعني من صرخات الماضي السحيق ، وترميني نحنو حدود الهيام.
.....هيام...أي ...هيام لقد ماتت كل العيون التي تشتاق لنور الهوى العذري ، الذي لم تخدشه الأيادي الملوثة بقيم مهووسة برجل السوبرمان ، ولم تبقى سوى منعرجات ...طلامس...عزوف ....تلك سيرة حب مجنون لرجل بكى لوداع اللحظة التي لم تحمل حقائبها في هسهسة ريح الموت القادم من كتب الحب القديمة.
...لا...لا ...شيء يصيّر الدم أحلاما وردية ، والسيف وردة حمراء ، والرصاص برتقالا سوى ذلك القابع وراء جموح الحلم الغائب ،لذلك لن أترك الأحلام التي نامت تستيقظ مرة أخرى في دجى ليالي الأمل المنطفئة.
لكن ما لبث أن لعقت أمواج الشوق المستميت فكرته الأخيرة ، فوسوس في صدر الريح :
- نخبك أيتها الشقية في صهللة هذا الخمر العتيق .
- نخبك يا أشلاء شهوة تلاشت في هذا السديم المعطل.
وتوارت مشاهد العربدة تراقص ترانيم الجسد المخمور ، وتوالى زفير الزجاجات التي كلت من نضح البلاعيم الجافة ، التي كسرت خصاص الصمت ، فبشت شفاه سخية ، بزغت منها ابتسامات صارخة ، أسكرت كل الآذان العطشى لكلمات ساقطة تحلق في تخوم هذا الفراغ الثمل .
اهتزازات البطون ، إيقاع طقطقات الأرجل ، دندنات الرؤوس ....الكل يتماشى في مسار متواز ،متساو. الأنخاب تتأرجح بين الأيادي العابثة ، والعيون تحرص كل هاته الأشياء في مشهد أطمس أجيج اللحظة في خليج الفوضى.
هز البطون ....الجسد الساجي الثمل العذب الطراوة ، تتناغم اهتزازاته مع قسمات الإيقاع ، فتفطح الآهات المكلومة على متر الرغبة العزلاء، فتلتحف الرؤوس برداء الشبق ، وتأخذ الليل من معصمه لتغيب في سديم اللذة.
طقطقات الأرجل ، إيقاع متدفق منساب على سائر جغرافيا الجسد ، والأيادي المتخذة شكل الأجنحة المنكسرة ، تزيغ عن تخومها ، لتمتد إلى مواطن الشهوة العارمة ، حيث الضوء الخافت غالبه لعابه من شدة الإغراء.
دندنات الرؤوس تتماهى مع الإيقاع ، ترادف القافلة في رحلتها الطويلة مع النغم ، وتؤيد النشوة التليذة في ذاكرة زاخرة بليالي الأنس والصعلكة......
ارتطمت الأنخاب ، وتدفقت الأصوات في جوقة الكلام ، وتمايلت أنقاض الأجساد في صهيل الهيجان ، وفارت كل الألسنة أمام دهشة حروف الجسد الذي أشعل شرارة الشهوة المنثالة على سعال الكلمات.
- سأمتطي صهوة كلماتي، لأسبر في أغوار أوقيانوس لحظيك ، وأرقش على صفحاته ذكرى حبيب أتلفت أحداقك خطاه ، وأنهك غدافك رجاه ، وأهزمت بسمتك بيارق هواه.
-سأزيغ عن تخوم المحال ، لأستوطن في شرفة قلبك ، وأنسج شرنقة حب جنوني ، يمتد به الإعصار إلى حدود الهيام ، حيث الجنون يغازل الليل في شط عينيك .
-سألتحف أغنيات العشق ، وأعتصر الجرح ، لأرسم خارطة حب خصيب ، تنبث في شقوقه ذكريات عاشق أهدى تراتيل كلماته لسهراته الليلية البعيدة.
-سألفظ جدائل أحلامي لجوف الليل ، وأكتفي بسر النيازك التي ترشق الوجوه الشاردة بمفاتن خصر مغنج.
ثم ، تعترش الأنخاب الأفق ، وتتدحرج في أنات ،لتعانق دائرة الأشداق محدثة قرقرة خريفية تطمر ضجيج اللحظة في بؤر الصمت .
وتستأنف اللفائف التبغية اشتعالها ،وتتوالى زفراتها كرذاذ الظلام ، فتستحوذ على تخوم المكان ، وتحجب تجاعيد المرايا ، التي عرت عن فجوات جراح ضامر .اعتمت سكره بحزن ذارف .
اختل الحاجبان ، واختلج الهذبان ، ورمست الشفتان على ابتسامة مجهدة ، وفاض الوجه في غمرة الحزن ، وأسبلت العيون دموعا ، ولم يشأ اللسان بهمس أو لمز ، بقي مشلولا يصارع الكلمات في ثغر أطبق عليه الجمود نفسه، فأدلمت الجمجمة المثقلة بالتفاصيل أوصالها نحو الأرض ، وراحت اليدان تآزرها بربتات على الخدود السعفاء ، وتكفيفات لموع المآقي ، ولم تتوقف أرنب الأنف على نزيفها المخاطي الراعف الذي اكتسح كمي القميص الأسود.
بينما أمطرت كل القلوب الصلدة بضحكات خافتة مستترة بين الأنامل العابثة بقوة الفجيعة ، التي أخدشت في قلب مرهف شروخا كفوالق بيولوجية ، أثمرتها صدمة موجعة للذكرى .
انزاح الوجه الباكي عن وهج أتون أحزانه ، وارتدى متون بسمة تفاؤل واندفع :
لأن أخون فارس الريح ، لن أركض وراء الأمس، سأخضب دفتر الذكريات بلون الموت ، حتى أبقى في حجر الريح ، أحترف لغة متاهات العراء.
فأشهرت الثغور صدى ضحكاتها، في سفر متكرر نحو رحلة الجنون ، صادحة أنشودة رجل مغبون بعبثية الحياة ، يسامر اللذة ، وينادم الليل في حضرة بخوس رجل المواقف الغامضة.

[ذ. طارق]

السلام عليكم
نص جميل من استاذ جليل
بارك الله فيك