ثلاثون دفترا..
متعبا، أدحرج خطواتي لتلوك الغبار في تشاؤم. الوجوه التي أتقاطع معها، صرت أميزها بحرص العادة.. بعضها آدمي، وبعضها الآخر لدواب تناثرت هنا وهناك. كبطل من أبطال اللعب السيبرنيتيقية..التي يعشقها ابن زميلي "عبد القادر" الذي انتقل إلى المدينة السنة الفارطة.. أنعطف شمالا، مكملا مسيرتي السيزيفية، وأنا مؤمن أنه مهما طالت المسافة بيني وبين قبوي الفقير.. فلن تكون أطول من معاناتي، وسط هذه الدوامة من شظايا العمل، وأحاديث الشامتين من المعارف، وما لا نهاية له من الانتكاسات المتكررة... خواطر ماكرة، تتسلل إلى ذهني شبه المخذر، وهي محملة بعشرات التساؤلات العميقة والموجعة غالبا.. الفراغ العائلي يولد أحزانا، أحس ببراثينها الحادة، وهي تنغرز في صدري الذي أنهكه السعال، بقوة البرد، والدخان السام الذي أتجرعه كل لحظة... أتوقف أحيانا لأعدل من وضع الثلاثين دفترا، والتي عرقت تحت ذراعي المجهد.. ثلاثون دفترا.. أبيت الليل كله، منقلا بصري الضعيف بين خربشاتها، مصححا أو مقوما.. لكن في جميع الأحوال ساخطا.. ثلاثون دفترا بالتمام والكمال !.. كل دفتر منها يساوي عاما قضيته بين أشواك ومستنقعات هذا الدوار، منذ أن لبست وزرة، و حملت أناملي طبشورة، أمام سبورة سوداء كسواد أيامي الرتيبة هاته.. ثلاثون عاما من الصراع المرفق بالحذر الشديد من المقدم، الفقيه.. والإدارة. ثلاثون عاما من الإنذارات والتوبيخات والاقتطاعات القاهرة... قد تكون هناك ضغائن بين هذا أوذاك.. وما أكثرها!.. لكن، ما إن يلوح غبار الطباشير.. ولو من بعيد، حتى تطوى الصفحات السوداء بين الجميع.. معلنة اتفاقا وتماسكا غريبين.. ضد.. كل من اشتمت فيه رائحة مهنة\محنة التعليم... كل تلك البهرجة، ضد هذه الكتلة البئيسة والمنهكة بالمكابدات والانتظارات اللامتناهية... الأحاديث والنكات المحاكة باستمرار ضد أمثالي، والتي يهضم بها السكان وجباتهم اليومية، حولت شخص المعلم إلى حشرة حاسوب – تلك التي حكى لي عنها زميلي "عبد القادر"– وجب التخلص منها: المعلم فعل..!المعلم ترك..!حركاتي باتت محسوبة على قلتها. أقوالي تدون – داخل وخارج القسم – وتدرس من جميع الزوايا المظلمة، وكأنها تصريحات زعيم يقود عصابة تمرد!!كل من شوهد معي يوما، تسدد إليه فورا بنادق الإشاعات الفتاكة، ويشار إليه بأصابع الارتياب والتوجس...
أتوقف لاهثا. أنفض الغبار عن سروالي المتخم بغبار الطريق. وقبل أن أدخل مفتاحي اليتيم في ثقب القفل الصدئ،تسللت خارجا من جسدي دون أن يحس وتركته مشدوها . حدقت مليا. كان حمار كبير يقف أمام الباب متأبطا ثلاثين دفترا..