بسم الله الرحمان الرحيم .
سعيدة بنجلون : المساء
لطالما أحسست خلال سنوات الدراسة بأن وجودي داخل الفصل كعقل يفكر ويناقش ويحلل، هوشيء مزعج ومقرف بالنسبة للأستاذ، الذي لاهم له سوى تقيء معلومات أكل عليها الدهر وشرب ليبتلعها التلميذ أوالطالب على الفور ويعيد تقيئها بدوره على الأستاذ يوم الامتحان من أجل الحصول على نقطة جيدة.
كثيرة جدا هي اللحظات التي شعرت فيها بأنني مجرد امتداد للكرسي الذي أجلس عليه، وللطاولة التي وضعت عليها دفترا مسكينا صنع لأسجل فيه ما يمليه علينا الأستاذ حتى أمل ويمل الكرسي وتمل الطاولة دون أن يمل الأستاذ، كم مرة عبرت فيها بكل صدق وحماسة وفرح عما يجول بذهني حول موضوع ما وفوجئت بردة فعل من الأستاذ يسقط بواسطتها علي الكره الذي يحمله اتجاه نفسه والعنف المكبوت بداخله اتجاه اليوم الذي صفعت فيه رغبته في الحديث إلى الآخر والإدلاء إليه برأيه، واغتيلت حاجته الملحة في مخالفة الآراء المتداولة، وأجبر مغبونا على الصمت، وكتمت وكبتت صرخة في أعماقه هي تلك الصرخة التي يقذف بها في وجه طالب حينما يعبر عن رأيه. إنها عودة لمكبوت لازال سمه ساري المفعول في كيانه منذ اليوم الذي ذبحت فيه الرغبة في الكلام وكم هوصعب أن تذبح رغبة ما دون أن يكون وبالها على الشخص والمحيطين به عظيما.
حينما يدخل الأستاذ إلى القسم معتقدا بأنه مركز هذا الفضاء الصغير، وبأنه هوالوحيد الذي يستطيع التحدث عن فكرة ما وإيصالها إلى الآخرين، فإنه بذلك يتناسى دون أن ينسى بأنه ليس مهمشا وإنما هوالهامش بنفسه داخل ذلك الفضاء الكبير الذي هوالذات والآخر والعالم. إنه يعتبر القسم قنطرة يصل عبرها إلى الاستمتاع باستهام أن يكون في المركز وأن يؤمن الآخرون فورا بما ينطق به، مثلما آمن هوفي يوم ما وفي كل الأيام بما قيل له. وهكذا يصبح رأي مختلف لطالب قادر على استفزاز الأستاذ وإيقاظ رواسب الماضي لتطفوعلى السطح في شكل قمع واستهزاء وإقصاء للطالب وتصنيفه من أولئك الذين لا يحترمون لا أنفسهم ولا الأستاذ، هذا الأخير الذي كلمته لا يجب أن تعلوعليها كلمة ورأيه لا يجب أن يخالفه رأي.
كم تمنيت لوأنهيت مسار دراستي دون أن أعيش صراعات عديدة مع أساتذة لذتهم الكبرى هي أن يروا في أعين طلبتهم نظرة التقديس، تلك النظرة التي لم يراها في عيني قط أستاذ مهما بلغت درجة علمه (جهله) وقيمة الدبلومات التي حصل عليها. وهنا أعطي المثال بذلك الأستاذ الحامل لدكتورتين حصل عليهما من بلدين مختلفين من أرقى دول العالم ، انه الدكتور الذي كان يتحدث إلينا في حصص التحليل النفسي عن اللاشعور، عن فرويد وعن المفاهيم الرئيسية في نظريته، كان يتحدث إلينا عن النرجسية والخصاء والذاتية والموضوعية، وضرورة التحويل (العلاقة التي تنشأ بين المعالج والمريض) لكي يتم العلاج عن طريق التحليل النفسي، كان يتحدث إلينا عن كل هذا وعن مفاهيم أخرى دون أن يعلم بأنه نرجسي لا يقبل بالخصاء، ولايعترف بذاتية الطالب، ويجهل تماما بأنه ليس فقط العلاج النفسي هوالذي يقتضي التحويل وإنما التدريس أيضا، لأنه بغياب «التحويل التربوي» أي العلاقة الجيدة والإنسانية بين الطالب والأستاذ يغيب التدريس وتغيب التربية ويغيب معهما الحاضر والمستقبل.
في إحدى حصص التحليل النفسي أكد هذا اللاأستاذ بأن اللاشعور فردي ولا وجود أبدا، لشيء يمكن تسميته باللاشعور الجمعي كما يقول بذلك الطبيب والمحلل النفسي يونغ، لأن اللاشعور مرتبط فقط بالأوديب وبموقع الطفل في المثلث «أب-أم- طفل»، فلكل لاشعوره حسب العلاقة التي تربطه بوالديه، وتاريخه الفردي منذ ولادته.
حينها قلت له بأنني معجبة بنظرية يونغ وبأن اللاشعور الجمعي نظرية من الصعب نفيها في اعتقادي ، وإذا أردنا التحدث عن اللاشعور داخل المغرب فلا بد وأن نتحدث عن اللاشعور الجمعي لأن له دور كبير في قيادة سلوكاتنا وتحديد مصيرنا.
قاطعني قبل الانتهاء من كلامي وقال : «اللاشعور الجمعي غير موجود» . ظننت بأنه سيطلب مني شرح أكثر فأكثر رأيي أوسيقترح علي إنجاز عرض أوضح فيه اعتقادي هذا وأتحدث فيه عن هذه النظرية أوعلى الأقل أن يقول لي من حقك أن تعجبي بهذه النظرية لكن بالنسبة إلي اللاشعور يتعلق دائما بما هوفردي غير أن رد فعله كان مغايرا تماما. لم يقبل برأيي ولم يمنحني حتى فرصة الكلام عما أريد توضيحه وهكذا خاب ظني فيه، خاب ظني في الذي أسميته أستاذا طالبنا في أول حصة بتغيير اسم المادة من مادة التحليل النفسي إلى مادة إبستيمولوجيا التحليل النفسي، فهل بقمعه لي أولغيري يفسح المجال للابستيمولوجيا، تلك الفلسفة التي تقلب وتزلزل المفاهيم؟
فكم من المضحك أن يدرس أستاذ شيئا انقلابيا اسمه الابسيتمولوجيا في نفس الوقت الذي يضرب فيه بأهم قواعد ومبادئ الايستيمولوجيا بعرض الحائط، وأولها زحزحة المفاهيم من برجها العاجي الأبدي وجعلها قابلة للنقاش لا للتأليه والتقديس.
لقد قلت له بأن ثقافتنا التي تمنعنا من التقدم إلى الأمام هي دليل على لاشعورنا الجمعي فقال : «إن ثقافتنا هي التي تساعدنا على تجاوز عقدة أوديب»، قلت له بأنني أكره هذه الثقافة فقال : «أنت لاتقبلين بثقافتك إذن أنت لم تتجاوزي الأوديب، أنت لازلت في رحم أمك» خيل إلي لحظتها بأنه خصص كل تلك السنين من عمره للدراسة ولنيل دكتورتين فقط من أجل أن يتمكن يوما من قمع طالب وإجباره على الصمت مستخدما لغة التحليل النفسي وكأن هذه الأخيرة لها دور واحد هوتعزيز عقدة خصائنا ومساعدتنا على خلق تبريرات لاتنتهي عند نكوصنا إلى مرحلة كنا فيها أطفالا لايهمنا شيء سوى الإحساس بأننا مركز اهتمام أمهاتنا وآبائنا وكل الناس من حولنا.
إن استخدام التحليل النفسي كأداة تساعد الشخصية على التضخم والانتفاخ، يحوله إلى مجرد سفسطة وقحة تلغي دوره في إيقاظنا من وهم كبير هوأن العالم خلق من أجلنا وأنه كلمة محاصرة في أحشائنا إذا تفوهنا بها أصبحنا نحن العالم، وأصبحت كل كلمة ينطق بها شخص آخر تحرق وتدمر عالمنا لذا يجب إحراقها وتدميرها قبل أن يتم النطق بها.
هذا الرجل الذي قضى سنين عديدة من عمره خارج المغرب، خارج البلد الذي معظم أناسه ليس لديهم أدنى مشكل في القذف بشيء ما على الأرض التي يقفون عليها إذا ما هم أرادوا التخلص منه.
هذا الرجل الذي قال بكل حدة وحسم وقناعة بأن اللاشعور الجمعي لايوجد إطلاقا يجهل تماما بأن لاشعوره الجمعي هوالذي جعله لايخجل من رمي منديله الذي يمسح به أنفه على أرض الفصل أمامنا في كل حصة للتحليل النفسي حتى ارتبطت في ذهني هاته المادة الجميلة بذلك المنديل الذي ألقي عليه نظرة في كل مرة قبل مغادرة الفصل عند انتهاء الحصة فأجده محتضرا على الأرض كارها اليوم الذي جاء فيه إلى الوجود شيء اسمه التحليل النفسي . كنت أشعر بأنني والمنديل شيء واحد، كلانا يشكل بالنسبة للأستاذ شيئا واحدا، ينفث فيه أوساخه ثم يقذف به على الأرض دون أن يحتج على ذلك أحد.
مثلما يلطخ ويلوث ذلك المنديل، يلطخ ويلوث التلميذ أوالطالب بأصولية الأستاذ المرتدي قناع الحداثة والعلم. ليقذف به فيما بعد إلى المجهول ويجد نفسه غير قادر على التفكير، وحتى أن فكر فإنه لايعيد سوى إنتاج نفس الأفكار ليتماهى بالمعتدي على حقه في الكلام والاختلاف والتعبير.
إن اللاشعور الجمعي يمكنه منع الإنسان من تبني سلوك جديد وإن عاش لمدة طويلة في بلدان متقدمة وسط أناس يحترمون فضائهم العام.
حينما يكون جزء من لاشعورنا موروث عن أجدادنا وأمواتنا وأشباحنا يكون من الصعب التخلي عن سلوكاتنا القبيحة بل وحتى الاعتراف بأنه لايصح القيام بها.
حينما يكون من البداهة عند رجل تعليم أن يرمي بمنديله المتسخ على الأرض داخل فضاء من المفروض أن يدرس فيه العلم فهنا لايمكن القول بإمكانية احترامه للتلميذ الذي يحس ويتألم ويبكي ويفرح ويضحك مادام لم يستطع احترام مكان يبقى مهما بلغت أهميته مجرد شيء بالمقارنة مع الإنسان.
بعد أن يأمر اللاشعور الجمعي لرجل اللاتعليم هذا أن يقوم بالتدخين في الفصل ويحرم الطالب من حقه في استنشاق هواء نقي هل يمكن أن ننتظر منه أن يمنحه الحق في الكلام والاختلاف ؟!
هل يمكن أن نتحدث عن إصلاح أوتغيير في قطاع التعليم مادام العديد والعديد من الاساتدة الجامعيين ليس لديهم سوى هم واحد هوانتظار الراتب الشهري والحضور لندوات تخاطب قضايا مجتمعنا من برج عالي وبلغة ومفاهيم لا يفهمها سوى المحاضرون أوربما هم أيضا لا يفهمونها.