خطبة واصل ابن عطاء التي تجنب فيها حرف الراء
سببالخطبة:
كانواصل ابن عطاء قد دعي لإلقاء خطبته على الملأ في حفل جامع ضم صفوة القوم، أقامهوالي العراق عبد الله بن عمر بن عبدالعزيز. فقد حضر المجلس سادة المفوهينوالبلغاء، وفي طليعتهم ثلاثة من أعلام الخطابة وأرباب الفصاحة، هم خالد بن صفوانوشبيب بن شيبة والفضل بن عيسى. وشرع كل واحد يلقي خطبته، وكان واصل بن عطاء أخرهم، فارتجل خطبتهالعتيدة وسط دهشة الحاضرين وإعجابهم.
خطبةواصل ابن عطاء التي جانب فيها حرف الراء:
“الحمدلله، القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلايحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلق على مثال سبق، بلأنشأه ابتداعاً، وعدّ له اصطناعاً، فأحسن كل شيء خلقه وتمم مشيئته، وأوضح حكمته،فدلّ على ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته. وذلّ كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا مثيل لـه، إلهاً تقدست أسماؤه وعظمت آلاؤه، علاعن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقولولا الأفهام، يُعصى فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئاتويعلم ما يفعلون. وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصدق طوّية، أن محمد بنعبد الله عبده ونبيه، وخالصته وصفيه، ابتعثه إلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق،فبلغ مألكته، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصدهعنه زعم زاعم، ماضياً على سنته، موفياً على قصده، حتى أتاه اليقين. فصلى الله علىمحمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى، صلاة صلاّها على صفوةأنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكمعباد الله مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، فأحضكم على مايدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معادٍ. ولاتلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاعقليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول. فكم عاينتهم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم منحبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلواً، ومزجت لهم سماً. أينالملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب،وأعدّوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد. قبضتهم بمخلبها، وطحنتهمبكلكلها، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقاً، ومن العز ذلاً، ومن الحياةفناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا تعاين إلا مساكنهم، ولا تجد إلامعالمهم، ولا تحس منهم أحداً ولا تسمع لهم نبساً.
فتزودواعافاكم الله فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبعأحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغمواعظ المتقين كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فاستمعواله وأنصتوا لعلكم تهتدون.
أعوذبالله القوي، ومن الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم. بسم الله الفتاحالمنان. قل هو الله أحد الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواًأحد.
نفعناالله وإياكم بالكتاب الحكيم، وبالآيات والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذابالأليم. وأدخلنا جنات النعيم. أقول ما به أعظكم، وأستعتب الله ليولكم.
امتحانالشباب له:
ويبدوأن بعض الشباب كان يطيب لهم أحياناً أن يتحرشوا بابن عطاء بدافع الفضول وبقصدامتحانه أو إحراجه والتندر بلثغته، إذ ليست مجانبة الراء في الكلام بالأمر الهين،ولا سيما أن الراء من أكثر الحروف دوراناً على الألسنة، فكان واصل شديد الحرص علىألا يقع في شركهم. ويروى أن نفراً من هؤلاء دفعوا إليه رقعة ليقرأها عليهم،وفيها:
“أمر أمير الأمراء الكرام أن تحفر بئر على قارعةالطريق فيشرب منها الصادر والوارد”.
فقرأواصل على الفور: “حكم حاكم الحكام الفخام أن ينبش جب على جادة الممشى، فيستقي منهالصادي والغادي”. وكان واصل إذا أراد أن يقول أعوذ بالله القوي من الشيطان الرجيم،باسم الله الرحمن الرحيم، فإنه يقول: “أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، باسمالله الفاتح المنان”.