تجمع بيداغوجيا الّتربية قبل المدرسيّة بين عدّة أبعاد أساسيّة، فهي بيداغوجيا شاملة ونشيطة وفارقيّة، وهي بيداغوجيا مُتمحورة أساسا حول الطفل في شمول شخصيّته وتنوّع
ميوله وتعدّد رغباته وإفراديّة خبرته وخصوصيّة إيقاع الّنشاط لديه...وانطلاقا من هذا المنظور فإنّ هذه البيداغوجيا تقوم أساسا على عدّة مبادئ يمكن إيجازها في ما يلي :
1. بيداغوجيا تقوم على الشّمول :
الطفل وحدة لا تتجزّأ، فجميع مكوّنات شخصيّته في تفاعل مستمرّ وفي تراشح نشيط مستديم، ونموّه يتمّ وفق سيرورة متكاملة الأبعاد (البعد الّنفسي-الحركي / البعد الذهني / البعد
الاجتماعي-العاطفي) عبر تفاعل نشيط مع المحيط المادّي والوسط الاجتماعي الذي يتواجد فيه، لذا، فالبيداغوجيا المعتمدة مدعوّة إلى مراعاة هذا المبدأ الأساسي ومخاطبة الطفل
والّتعامل معه عبر مسالك ومقاربات تحترم هذا المبدأ وتستجيب لمتطّلباته...
2. بيداغوجيا تقوم على مراعاة الفوارق :
لئن كان الأطفال يشتركون في الكثير من الخصائص العامّة للنموّ ويتشابهون في الكثير من العادات والرّغبات والميولات المنبثقة عن خصوصيّات نفس المرحلة العمريّة الّتي
يعيشونها إ ّلا أنّ الفوارق بينهم كثيرة ومتعدّدة، فنسق النموّ وإيقاع الّنشاط وسمات الشخصيّة وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة والقدرة على الّتواصل وطريقة التكيّف مع المستجدّات ومع
الآخرين تختلف من طفل إلى آخر، وقد تختلف لدى الطفل نفسه تحت تأثير عديد العوامل والمتغيّرات...وعلى البيداغوجيا المعتمدة أن تراعي مختلف هذه الفوارق وتّتجه إلى كلّ طفل في
إفراديّته باعتبار أّنه ذات مختلفة عن الآخرين وعلى المربّي أن يتواصل مع كلّ واحد ويرافق كلّ طفل دون أن يتخّلى عن متابعة كامل المجموعة.
3. بيداغوجيا تقوم على الإيقاظ :
تتزامن فترة الّتربية قبل المدرسيّة مع المرحلة العمريّة التي تّتسع فيها مجالات اهتمام الطفل ويزداد فيها توقه إلى التعرّف والا طلاع والاستكشاف، وعلى البيداغوجيا المعتمدة أن
تساير هذا الّتوق الطبيعي لدى الطفل وتعمل على صقله وتهذيبه من خلال توفير محيط تربوي ثريّ ومثير يسمح بالممارسة والاستكشاف والسّؤال والّلعب والّتقليد والّتفكير حيث يمكن من استخدام الحواسّ وإثارة الفكر وتنشيط الخيال وإيقاظ القدرات.
4. بيداغوجيا تقوم على اللّعب :
يعتبر الّلعب الّنشاط المفضّل لدى الطفل، فمن خلاله يُرضي ميولاته، ويحّقق رغباته، وينمّي معلوماته، ويكتشف قدراته، ويثبت ذاته بما يساعده على اكتساب الاستقلاليّة والتدرّب
على ممارسة مختلف الأدوار الاجتماعيّة والّتواصل مع الآخرين والّتعبير عن مختلف الأحاسيس والعواطف... لذا، فالأنشطة المقامة على الّلعب تكتسي أهميّة كبرى بالّنسبة إلى الّتربية قبل
المدرسيّة، ذلك أنّ الطفل ينمو ويكتشف الحياة ويتعرّف إلى حقيقة إمكاناته عن طريق ما ينخرط فيه من مختلف الألعاب سواء كانت جماعيّة أو فرديّة حيث يعيش هذه الألعاب بجسمه وبفكره وبعواطفه، إضافة إلى ما لّلعب من إسهام كبير في تنشيط الطفل وتحفيزه على المشاركة الّتلقائيّة في مختلف الأنشطة مع إشعاره بالسّعادة والفرح والانشراح...
إلا أنّ الّلعب في هذا المجال لا يمكن له أن يكون القاعدة المطلقة والّنشاط الأوحد فنكون بذلك قد جعلنا الفضاء الّتحضيري نسخة للمنزل وحوّلنا الأنشطة إلى مجرّد متتالية من الألعاب دون هدف تربوي واضح وغاية تنشيئيّة محدّدة...
فليعمل المربّي على إدراك مكانة الّلعب وأهميّته البيداغوجيّة دون أن يجعل منه المدخل الأوحد لكلّ نشاط والوسيلة المطلقة لبلوغ كلّ غاية.
5. بيداغوجيا تقوم على التّحفيز وإثارة الرّغبة :
يعتبر الّتحفيز وإثارة الرّغبة المدخل الأساسي للّتربية قبل المدرسيّة بصفة عامّة.
فالّنشاط لا يمكن أن يكون مفروضا على الطفل يمارسه بصفة قسريّة ودون إقبال تلقائيّ لما في ذلك من نتائج سلبيّة على نموّه وتكيّفه مع المحيط ومع الآخرين وعلى سلامة تنشئته
الاجتماعيّة بصفة عامّة... لذا فالّتحفيز وإثارة الرّغبة ضروريّان لانخراط الطفل بصفة كليّة في الّنشاط دون خوف أو تردّد.
6. بيداغوجيا تقوم على الحميميّة والتّواصل اللاّمشروط :
ُتعتبر الحميميّة والوديّة والّتلقائيّة من السّمات المميّزة لمختلف العلاقات السّائدة داخل الفضاءات المخصّصة للّتربية قبل المدرسيّة بصفة عامّة بما يسهم في إشعار الطفل بالطمأنينة
ويحفّزه إلى المبادرة ويشعره بالّثقة في الّنفس ويرغبه في الّتواصل مع الآخرين والّتعبيرعن مختلف مشاعره وآرائه دون خجل أو تردّد أو احتراز... إضافة إلى ما يخلقه المحيط
المطمئن من دوافع إلى الّنشاط الجماعي المقام أساسا على إنجاز مختلف المشاريع وفق تمشيات تقوم على الّتعاون الّتلقائي والّتواصل اللامشروط بما يمكن من تطوير مظاهر
الّتنشئة الاجتماعيّة لدى الطفل...
إلا أنّ الحميميّة والوديّة والّتلقائيّة لا يمكن لها أن ُتّتخذ ذريعة لتبرير السّلوك
الفوضوي وإضفاء المشروعيّة على التسيّب، ذلك أنّ الّتربية قبل المدرسيّة، وخاصّة السّنة الّتحضيريّة منها، هي تدريب للطفل كذلك على تشرّب الّنظام وممارسة السّلوك المنظم
واستبطان القواعد الاجتماعيّة وذلك من خلال مختلف ما يمارسه من الأنشطة الّتربويّة وما ينجزه من المشاريع في شّتى المجالات