:: دفاتري فعال ::
تاريخ التسجيل: 5 - 2 - 2008
المشاركات: 689
|
نشاط [ أبو فراس ]
معدل تقييم المستوى:
268
|
|
08-12-2008, 14:36
المشاركة 3
الانحراف الدلالي، وبنية النمط الشعوري
علاء الدين رمضان
قَرَّ في النقد الأدبي، منذ أن أبرز الشكليون الروس الفروق الجوهريّة بينلغتي النثر والشعر، أن هذه اللغة الثانية – لغة الشعر - تتشكَّل على السطحالأملس المحايد للغة النثر، وتمارس فوقه تنظيم نسيجها ورسومها وخواصهاالتعبيريّة والتصويريّة المتميزة. ومنذ أن طرح هؤلاء الشكليون مفهومالانتظام بوصفه خصيصة أساسية لِلُغَة الشعر، ثم طوّره "رومان ياكوبسن" مفهوم الأنساق باعتباره؛ أولاً: خصيصة للغة الشعر. وثانياً: الآليّةالرئيسية لخلق ما سماه "ريان موكار وفسكي": التأريض الأمامي Foregrounding، حاولت دراسات متعدّدة اكتناه التجليات المختلفة،المُحتملة، للأنساق. وقد جَسَّد المحدثون هذه المفاهيم والفروق التيتُمَيِّز لغة الشعر بمصطلح الانحراف الذي يعني أن شعريّة اللغة تقتضيخروجها الفاضح على العُرف النثري المعتاد، وكسر قواعد الأداء المألوفةلابتداع وسائلها الخاصة في التعبير عمَّا لا يستطيع النثر تحقيقه من قيمجمالية(1)، فبينما يُقَدِّم النثر (المعنى)، يُقَدِّم الشعر "معنىالمعنى".
والانحراف في معناه الواسع، هو كل خروج –غير مُبَرَّر- على أصول قاعديّةمُتَعَارَفٍ عليها، ويمكن حصر الانحرافات الشعريّة بالوقوف على الأشكالالبلاغيّة والأسلوبية التي يطرحها علم النص، والتي تعتمد بالدرجة الأولىعلى حصر الانحرافات الشعرية، وهو يَتِمُّ، أولاً، طبقاً للمستويات الصوتيةوالدلاليّة، ثم يتم طبقاً للوظائف التقابليّة بأنماطها الإسناديةوالتحديديّة والتراكمية، الأمر الذي يسمح مثلاً بالتمييز بين عامل إسنادي،وهو الاستعارة، وعامل تحديدي وهو الوصف، وآخر تركيبي وهو عدم الترابط(2).
وفكرة الانحراف deflection تعتبر خرقاً منظّماً لشفرة اللغة، يحاول بناءنمط شعوري آخر بنظام جديد، وجملة الأمر أن تجاوز نمطية اللغة أصبح من أهمالمرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر، الذي يتغيَّااستحداث لغة شعرية جديدة تتمرّد على القوالب الجامدة، فالألفاظ هي أوّل مايلقانا في نصوص الشعر، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ "اللغة إنماتحدّدت ألفاظها بالقياس إلى عالم الأشياء الحسي، أمّا عالم النفس المعنويفلا تزال ألفاظ اللغة قاصرة عن أن تحدّد معانيه، ولا تزال تضرب في تيهٍ منماهيّاته، وهي ماهيّات غير متناهية، وما لا تناهي له لا يدرك إدراكاًدقيقاً بحيث يوضع لفظ محدّد بإزائه"(3) ومن ثمَّ فلا قياس لنسب الانحراففي حقل النفس المعنوي، بل إن اللغة بعدئذ قادرة على استيعاب أقصى درجاتالانحراف مهما كانت، لأن اللغة ليست هي القاهرة عن التعبير عمّا في النفسالمعنوي، وإنما الوعي الاجتماعي والعرف، هذا هو موطن القصور الذي تعالجهاللغة الشعرية التي هي إحساس ووعي مقصود لذاته، إنها تفرض نفسها باعتبارهاأداة فوق الرسالة التي تتضمنها، وأعلى منها، وتعلن عن نفسها بشكل سافر،كما أنها تشدّد بانتظام على صفاتها اللغوية، ومن ثَمّ فلا تصبح الألفاظمجرّد وسائل لنقل الأفكار، بل أشياء مطلوبة لذواتها، وكيانات مادّيةمستقلة بنفسها، وعلى هذا تتحول الكلمات من دوال إلى مدلولات(4).
يقول الشاعر محمد فوزي العِنْتيل (1924-1981م):
أطيفك هذا الذي يرتمي على وحدتي
كنخلات قريتنا الوادعة
تُغطي الحقول بأحلامها في ليالي القمرْ
وتحتضن الطيرَ حين يَمُرُّ
بِجِيدٍ تَهَدّل منه الثمر!(5)
فالألفاظ هنا لا تؤدّي معاني لغويّة واضحة أو غامضة فحسب. بل هي تؤدي كذلكمعاني بيانية؛ فنحن ههنا –إذن- لسنا إزاء ألفاظ دقيقة، لها دلالات دقيقة،وإنما نحن إزاء رموز قاصرة يستعينون على قصورها بالخيال والموسيقا؛ ولكنقصورها لا يغادرها مغادرة تامة، بل تظلّ تسبح في ضبابٍ قليلٍ أو كثير،وهذا ما يجعلها واسعة الدلالة، حتى الألفاظ الحِسِّية، مثل (الجيد/ الثمر... الخ) تحسّ فيها اتساعاً شديداً وخروجاً عن مألوف الاستخداماللغوي، فلا يَتَهَدَّل من جيد الحبيبةِ إلاّ ثدياها، كما يَتَهدَّل من "جيد" النخلة "البلح /الثمر"... فالشاعر هنا يحاول نقل أحاسيسه ومشاعرهالتي لا تستطيع ألفاظ اللغة القاصرة أداءها، ومثال آخر من مرحلة أقرب،يقول الشاعر(6):
ما الذي يَتبَقى للجريحِ.....
سوى طعنةٍ....
يدخلها غاضِباً...،
يُبَعْثِرُ فيها أغانيه...
في هذه البِنْيَة الاستفهامية، التي تتضمَّن في تضاعيفها إجابةً غيرقاطعة، إجابة استفهامية، والانحراف أو الانزياح، تكمن قيمته، هنا، وقمّةعمله في لفظة "يدخلها" بإسناد فعل الدخول إلى الجريح، لا إلى نصل الخنجرمثلاً، فهذا المقطع وسابقه يفسحان المجال لوفرة من الاحتمالات، وفرق تفوقما لنا أن نعرفه وندركه، ومرجع ذلك إلى أنّ حركات النفس الباطنة ومشاعرهاوظلالها لا حصر لها.
والانحراف الدلالي في النص السابق يتجلى للمتلقين بفضل علامات البِنْيةالتي تتضَمَّنه والسياق القائم فيه، ومن هنا فإنّ الانحراف مهما بلغتدرجته فإنه قابل للتحديد، فدرجة الانحراف هي التي تحدّد مستوى التشكيلالفني ذاته داخل النص، وتنوعه، إذ هي دائماً قابلة للتحديد، وفكرة "القاعدة اللغوية" هي التي يمكنها طرح تصوّر مناسب لحدود الانحراف، لم تعد –هذه- تعتمد على الاستعمال بتنوعه الشديد، وإنما أخذت ترتكز على مجموعة منالقواعد الإجرائية المحدّدة الثابتة/ ومن هنا فإن الانحراف -باعتبارهعدواناً منظّماً على القاعدة –وما اقترح من اعتباره الخاصيّة المميزةللشعرية البلاغية، وقد اكتسب بالتالي دلالة منطقيّة، فالانحراف اللغويوالانحراف المنطقي –الدلالي- ينحوان هكذا إلى الامتزاج. وانطلاقاً من ذلكأصبح من الممكن بناء نظريّة نموذج منطقي لأشكال اللغة الشعريّة(7).
ومن نماذج الانحراف الدلالي قول الشاعر عبد الكريم الناعم :
وأمي عتيقة الهموم تشتري براءتي بالعُمر، تَنْتَحِبْ.
تبكي عليَّ، فابنها جنازة تَفِرُّ من أحداثها،
نَعْش على أكتاف وَهْمِهِ يُسَاقْ.
وقِصَّة عتيقة ميناؤها الرياح...(8).
ولنبدأ بِحَلّ شفرة هذا المقطع بتحويله إلى نثر،أي محاولة تقديم مقاربة دلالية له :
*"أُمُّهُ عتيقة الهموم تشتري براءته بالعُمُر(؟). تَنْتَحِبْ... تَبْكي عَلَيْه.
فابنها 0[التِفَات]- جنازة تَفِرّ من أحداقها (؟).
- [ وابنها]- نَعْشٌ على أكْتافِ وَهْمِهِ (؟).
- [ وهم النعش]- يُسَاقْ".
إلى هنا ينتهي حقل التشكيل الإزاحي عند الشاعر، في هذا المقطع، ومن نثره نوجز ثلاث مناطق للانحراف:
(1)العمر –بلا تحديد.
(2)الجنازة التي تَفِر من أحداق أمِّهِ.
(3)نعش على أكتاف وهمه –وهم النعش- يُسَاق.
في المنطقة الأولى تستبدل براءته بِعُمْر لم تُحَدِّد مدلوله، وهو في نفسالوقت ليس عمرها؛ لأنها بعد تلك العملية تقوم بفعل؛ وتُقارب، بالمنطقةالثانية، مفتاحاً للأولى، حيث إنّ الثانية فِعل تقوم به أمّه. أمّاالمنطقة الثالثة فهي ذروة الفعل الفنّي، وإن ماسَّتْ منطقة الغموض، فالنعشعلى أكتاف وهمه يُسَاق. فما هو وَهْمُ النعش؟ وماهي أكتاف هذا الوهم؟ معالأخذ في الاعتبار "أنّ يُسَاق" فعل مبني للمجهول، أي تكريس المفعوليّة فيمقابل تغيب الفاعل تماماً؛ ونخلص من ذلك إلى سؤال ثالث؛ من الذي يسوقالنعش؟.
الشاعر هنا يسلك مسلكاً أسلوبياً معروفاً؛ إذ يُقدّم اعتقاداً ثميَسْتَدِلُّ لصواب هذا الاعتقاد(9). فأمّه اشترت براءته /(قيمة الجوهر)،بعمره /(الهيكل العرضي)؛ بعد أن ذاب في الكأس عمرُه... لقد اتجهت الأم فيالجوهر مدفوعة من نداء الغريزة التي تطمح إلى الكشف،... إلى المخبوء،والنفوس المثاليّة تتطلّع للسمو والتنزّه عن قصور البشريّين، وقد استعملالشاعر الجَمَاد هنا. النعش –ليتداخل معه في حالات شعوريّة متساوقة بينهمابفرض تكافُئِهِمَا، وهو نوع مُتَقَدِمٌ من الإزاحة باعتبار الانزياح آليةلتقويض البناء التَعَقّلي بالإغراق فيه، في محاولة للوصول إلى الاتجاهالغريزي الذي ينزع نحو التسامي؛ فجمال الشعر وقيمته يكمنان في كونه منطقةوسطى بين العقل والغريزة، فلا هو معرفة نجرّدة، ولا هو اتجاه غريزي بَحْت. والنمط نفسه يتكرَّر في قصيدته "آتيك عَالماً فأَوْرِقي"، إذ يقول عبدالكريم الناعم:
وحينما لم تبق في الشفاه أغنية
مَدَدّتُ مقلتي
عبرت فوقها،
وصرت قُبّة في عالم بلا فلك
لقد احتفظت لغة الشعر –على مَرّ العصور- بمقوّمات فَنّية مازالت تنمو بفضلعباقرة الشعراء والنقاد في مختلف الآداب، وانتهت إلى العصر الحديث فأثّرتفي أدبه من حيث صياغته ومعانيه. ولا ينال هذا التأثّر –في شيء- من اللغةألفاظها وقواعدها؛ فهذا ما لم يَقُلْ به أَحَدٌ من المجدّدين الذينيُعْتَدّ بهم، في أدبنا العربي أو في الآداب العالميّة الأخرى، ولم يدر فيخلد هؤلاء المجدّدين أن ينالوا من اللغة أو يُهَوِّنوا من شأنها أو من شأنالمعرفة الدقيقة لأساليبها ومعانيها(10).
ومحصّلة الأمر أن هذه الظاهرة تتشعب إلى نوعين:
1 - مُرُود قاعدي ruletic deviation.
2 - انحراف مضموني، انزياح displacement.
أولهما مرذول لأنه يُعتبر من أوجه القصور التي تصيب أدوات الشاعر. أماالثاني يُعَدّ بُعْداً جمالياً إذا لم يحاول الشاعر الإغراق فيه والالتزامبمدلول شعري قادر على تفجير الطاقة التواصلية للغة بين الشاعر والمتلقين.
***إحالات :
(1) انظر؛ د. صلاح فضل: إنتاج الدلالية الأدبية، هيئة قصور الثقافة المصرية (ص: 240).
(2) د.صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص، المجلس الوطني للثقافة، عالمالمعرفة –الكويت (ص: 58) ؛ وانظر؛ مناقشة رولان بارت لهذا المصطلح في:
-Roland Barthes, "Style and its Image" in; "The Literary Style; Asymposium" ed. Schaman Oxford univ. press, 1961 (p7). Tzvetan Tod- orov, The place of stylen in the structure of the text. In; The Literary style, Ibid (p. 77-88).
(3) شوقي ضيف: في النقد الأدبي، دار المعارف، (ص: 129).
(4)- -Trence Hawkes; structuralism and semiotics, (p. 63) univ. of California press 1977.
(5) فوزي العنتيل: رحلة في أعماق الكلمات، دار المعارف (ص 54 ).
(6) علاء الدين رمضان، المتواليات. الهيئة المصرية العامة للكتاب (ص: 63).
(7) فضل؛ بلاغة الخطاب (ص: 200).
(8) عبد الكريم الناعم: الرحيل والصوت البدوي، مؤسسات ابن عبد الله بتونس (ص: 15).
(9) راجع: تلخيص كتاب الشعر، مؤلفات ابن رشد، هيئة الكتاب، (ص: 69-70).
(10) د.محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، ط دار نهضة مصر، (ص: 386).
سقط القناع عن القناع سقط القناع
لا إخوة لك يا أخي لا أصدقاء
يا صديقي لا قلاع.............رحمك الله يا محمود
|