إننا لا نحتاج إلى تقرير البنك الدولي أو غيره من التنظيمات الأممية المكلفة لتخبرنا عن واقع تعليمنا ، فأهل مكة أدرى بشعابها ، و أبناء الميدان يدركون أكثر من غيره ما آلت إليه الوضعية التعليمية ببلادنا ، و التي أصبحت متآكلة ببنيات تحتية معدومة ، أو مخربة نتيجة التقادم و الإهمال ، وهم منذ زمن بعيد غير راضين عن المحيط الذي يمارسون فيه عملهم ، ويعلمون أن هذا الخراب المحيط بهم جاء نتيجة السياسة التعليمية المهترئة و التي تعتبر التعليم قطاع غير منتج . و هم يدركون تمام الإدراك أنه بدل التعاطي الجدي و العلمي مع المشكل ، تلجأ العقليات المتحكمة في المدرسة العمومية إلى محاولة تمرير خطاب سطحي إيديولوجي خطير يحط من عمل و جهد الفئة الأكثر فعالية ، وهي المدرسين ، و يحاول ، بل يلقي عليهم اللائمة في وصول التعليم إلى المراتب المتدنية التي وصل إليها .
انه بالتأكيد هروب إلى الأمام و قفز على رؤية موضوعية لهذا القطاع الذي يعتبر الشريان النابض لكل مجتمع ولكل دولة ,
فأصبحنا اليوم نسمع الخطاب القديم الجديد الداعي إلى إصلاح التعليم ، و العازم على فعل ذلك . فالمغاربة منذ ظهور فجر الاستقلال و مع ظهور كل وزير جديد ، يسمعون انه سيكون إصلاح تعليمي يعيد المدرسة العمومية إلى جادة الطريق ، فيرحل وزير و يقبل آخر ، و تبقى المدرسة على ما هي عليه ، بل تزيد تأزما بفعل تآكل بنياتها .
وقد صفق المدرسون كثيرا ، و استبشروا خيرا عندما طفا على السطح خطاب يدعي أن إصلاحا سيكون الأكبر و سيكون القسم أهم حلقاته ، ظنا منهم أن الوزارة المسؤولة ستعتني بهذا القسم الذي يدرس فيه أبناء غالبية الشعب ، و الذين هم جزء لا يتجزأ منه، و ستوفر للعاملين فيه و سائل العمل المادية و المعنوية التي تساعدهم على أداء واجبهم في أحسن الظروف ، فتصبح المدرسة المكان الأكثر جاذبية ، بدل أن تكون مختبرا للتجارب ، وتعلم الحلاقة في رؤوس اليتامى.
انه بدل أن تقوم الحكومة أو الوزارة بذلك ، ولو برسائل تحفيزية ، جاءت بإصلاح من نوع آخر ، والذي أشركوا فيه كل شيء إلا الأستاذ ، بل جاء إصلاحهم ليجعل من الأستاذ شماعة يصبون عليها جام غضبهم ، و يمسحون فيها كل فشلهم ، فبدؤوا يصدرون المذكرات تلو الأخرى ، و التي يريدون بها مس كرامته و تنيه عن طموحاته ، لكن ، هيهات ؟
جاء الإصلاح ، لكن عوض أن يضع القطار على السكة الصحيحة ، بدؤوا يبحثون عن طرق ملتوية سيتيهون فيها ، و يتسببون في تيه المدرسة العمومية .
إنهم عوض أن يهتموا بالأستاذ ، و ينزعون السمكة الفاسدة ، عمموا رائحتها على الجميع و سعوا لتركيعم .
و هنا نتساءل ، من هو هذا الأستاذ الذي بدا في الإصلاح و كأنه آت من كوكب غير الأرض ؟
انه الإنسان الذي يستيقظ قبل غيره ، ليجد له متسعا من الوقت للوصول لعمله قبل التلاميذ ، فيعدو لعله يكون أول زبناء سيارات الأجرة الكبيرة التي تقله إلى مكان عمله في البادية بعد أن يطوف به سائقها في شوارع المدينة بحثا عن ركاب ، فيستجديه ليسرع حتى لا يتأخر عن عمله .
انه الذي يعيش منفيا بعيدا عن أبنائه ، و عن ضروريات الحياة العادية ، من ماء و كهرباء و وو
انه المواطن الذي يؤدي ثمن تنقله لعمله من ماله الخاص ، ولا يتلقى على ذلك بدل تنقل على غرار الكثير
انه المدرس الذي يقبل على قسمه فيجده خاويا على عروشه فيحاول أن يبعث فيه الحياة ، فيشتري الأدوات التعليمية و يقوم بتزيين فضائه بماله الخاص دون أن ينتظر كلمة شكر من أحد
انه المواطن الذي يجد نفسه أمام حالات إنسانية وجها لوجه ، فلا يبخل على تلميذ يتيم ، أو معوز فيمنحه ما استطاع من كتب و أدوات فينتشله من غيا بات الشارع المعتمة
أليس الأستاذ من يؤدي الساعات التطوعية دون مقابل
أليس الأستاذ من يقوم بالتصحيح و الحراسة وووووو ودون مقابل
فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟
في ظل كل هذه التضحيات و غيرها ، و التي يقوم بها من منطلق أنه جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع ، تقبل عليه الحكومة إقبال المسعور محاولة الحط من قيمته و استفزازه و إثارة الشبهات حوله و إلصاق كل ما يمكن أن يلصق به من تهم و مسح كل ما أنتجت من فشل ليكون الحلاق المعلق على الصومعة
بل تتجاوز كل هذا لتعض من رزقه الضئيل لتعمق جراحه الدامية ، لا لشيء إلا لأنه يطالب بحقوقه المشروعة ، و يريد العيش بكرامة مثل سائر المواطنين ، وفي وطن لا يميز بين أبنائه ،
إن الحكومة بأفعالها هذه أرادت أن تخرص الأصوات الصادحة ، لكن السحر انقلب على الساحر ، فأصبحت الساحة أكثر غليانا و احتقانا ، و ازداد السخط .
ولولى مراعاة هذا الأستاذ الكريم لمصير أبناء هذا الشعب الأبي ، و خوفه عل المدرسة العمومية التي تربى فيها و عشقها ، لكان رده أقسى مما هو رائج ,
وإننا لا نطلب من حكومتنا شيئا ألا العودة إلى الطريق السديد ، و الشروع في إصلاح حقيقي يشارك فيه الكل ، ولا يكون فيه ضحية و جلاد . فنرقى ببلدنا مدارج العز و النماء ، و تكون مدارسنا مثالا للاقتداء