ماذا بعد البرنامج الاستعجالي؟
المساء
نشر في المساء يوم 01 - 11 - 2012
كما هو معروف، سينتهي البرنامج الاستعجالي في دجنبر 2012 من هذه السنة. وبعد تقييم وافتحاص الوزارة الأولي للبرنامج قبل 4 أشهر من انتهائه، بدأت غالبية الأصوات تقر بفشله، رغم أنه لم تصرف سوى 45 في المائة من ميزانيته والجزء الكبير من ال55 في المائة المتبقية لازال في خزينة الدولة، وأغلب مشاريعه التطبيقية التي أنيطت بالأكاديميات عرفت تعثرا وضعفا ولم تنجز كليا أو هي في طور الإنجاز.
وأوقف الوزير الجديد بعض مشاريعه البيداغوجية (بيداغوجيا الإدماج، التقويم وتأليف الكتب المدرسية وفق هذه البيداغوجيا). وبعد الخطاب الملكي ل20 غشت (2012)، بدأت تلوح في الأفق ضرورة القيام بإصلاح جديد؛ لكن ما هي مقوماته؟ وهل سيتم اعتماد منهاج تربوي جديد، بحيث يتم تجديد أو تغيير الأهداف والمبادئ والاختيارات الكبرى، والهيكلة التنظيمية والتدبيرية، والمناهج والبرامج والكتب التربوية، والاختيارات البيداغوجية واللغوية، ونظام التقويم والإشهاد،... ليتوافق كل هذا مع الدستور الجديد والخطاب الملكي ل20 غشت الأخير وتجاوز اختلالات البرنامج الاستعجالي؟ أم سيتم الاكتفاء فقط بإصلاحات جزئية وشكلية وسريعة؟
أظن أن القيام بإصلاح المنهاج التربوي ككل سيتطلب إجماعا وطنيا جديدا، ومجهودات وأموالا أكثر، وضياعا أكثر للزمن... لأن الإجماع حول الخيارات والأهداف والمبادئ الكبرى لمنظومة التربية والتكوين قد تم من خلال الميثاق الوطني للتربية والتكوين. وبالنسبة إلى البرامج والمناهج والكتب المدرسية، فإنه قد تم تنقيحها وتجديدها نسبيا في الابتدائي، من خلال مشروع «البرامج والتوجيهات التربوية المنقحة لسلك التعليم الابتدائي» الذي أصدرته الوزارة في يونيو 2011، فقط يجب عرضه للإغناء والتعديل على المدرسين قبل الشروع في تطبيقه، وتعميم وتنقيح برامج باقي الأسلاك. أما بالنسبة إلى مسألة اختيار النموذج البيداغوجي، فإنه وقع سوء فهم كبير في ما يخص تطبيق بيداغوجيا الإدماج، لما اعتراها من اختلالات على مستوى التنزيل والتكوين، واستغلال تنزيلها من خلال الهدر الكبير للمال العام على مستوى التعويضات وكثرة الوثائق والدلائل... فمثلا، على مستوى مصاريف تعويضات التكوين والتأطير والمهام وغيرها، لماذا يتلقى المفتشون تعويضا عن مهمتهم التأطيرية؟ ولم لا يقومون بها في المؤسسات المدرسية المعنية كما كان ساريا من قبل؟ حيث سيتم اقتصاد المال العام والجهد والمعاناة التي تتعرض لها الأطر التربوية والإدارية المُكونة؛ كما أنه ليس من المقبول أن تستفيد بعض الأطر الإدارية من تعويضات على مهام هي من صميم مسؤولياتها. لنعد إلى مسألة مقاربة بيداغوجيا الإدماج، ومن خلال تقييم بيداغوجي صرف، وبعيدا عن المزايدات والسخط والنقد غير المؤسس علميا، وبغض النظر عن سوء التنزيل والتكوين والاستغلال، فإن أهداف هذه البيداغوجيا جيدة، وهي إطار تطبيقي جيد لبيداغوجيا الكفايات، هذه البيداغوجيا ونظام تقويمها يوافقان تماما أهداف البيداغوجية الحديثة والعصرية، وما دعا إليه الملك محمد السادس في خطاب 20 غشت من تجاوز لمنطق الكم والذاكرة والتلقي إلى منطق الكيف والذكاء والإبداع وتنمية القدرات والكفايات الذاتية والمهارات، وتحقيق الإنصاف التربوي، خصوصا على مستوى الدعم والتقويم والإشهاد... وحسنا فعل وزير التربية الجديد حين دعا فقط إلى توقيف تطبيق بيداغوجيا الإدماج إلى حين تقويم تطبيقها، رغم أنه لم يتم تطبيقها فعلا حتى يتسنى لنا هذا التقويم على مستوى نجاعتها ونتائجها لدى المتعلمين. وهنا، أظن أن دعوة الوزير إلى ترك الحرية للمدرسين لاختيار النموذج البيداغوجي الذي يريدونه ويلائمهم، من الناحية البيداغوجية والمنهاجية، هي دعوة غير ناجعة ودقيقة، وربما يقصد الوزير حرية اختيار الطرق التربوية الملائمة، لأن المناهج والبرامج والكتب التربوية ونظام التقويم والإشهاد يتم التخطيط لها وبلورتها حسب نموذج بيداغوجي له أهداف واختيارات وطرق ومناهج بيداغوجية معينة؛ والنموذج البيداغوجي يلعب، كذلك، دورا مهما على مستوى توحيد التكوين والتعليم والتقويم... كما أن التنظيم التربوي والمقاربة البيداغوجية المقترحين في تطبيق بيداغوجيا الإدماج، كان يترك فيهما حرية تطبيق الطرق البيداغوجية الملائمة للمدرسين في أسابيع بناء الموارد، وكان هناك توحيد المقاربة فقط في أسبوعي الإدماج.
في الأخير، في رأيي، وتجنبا لإهدار المزيد من المال والجهد والوقت، يجب الحفاظ على المبادئ والأهداف والاختيارات الكبرى كما وردت في الميثاق الوطني للتربية والتكوين،وكما تم تدقيقها في الكتاب الأبيض، وكذا الحفاظ على الاختيارات البيداغوجية والتقويمية والإشهادية التي تم الشروع في تطبيقها (بيداغوجيا الكفايات/الإدماج)، بعد القيام بعمليات تنقيح وإغناء وتحيين حسب مستجدات الدستور الجديد وملاحظات واقتراحات الممارسين، خاصة المدرسين، والاحتفاظ بالمناهج والبرامج التي تم تنقيحها بالنسبة إلى الابتدائي في وثيقة يوليوز 2011 التي تمت الإشارة إليها سالفا، بعد عرضها للتنقيح من طرف المدرسين، مع تنقيح وإغناء نظام تقويم ومناهج وبرامج الثانوي بمشاركة المدرسين، وإعادة النظر في اختيار سلم أولويات المواد والشعب من حيث أغلفتها الزمنية وتأثيرها على شخصية المتعلم ومساهمتها في نهضة البلاد وتقدمها، خصوصا المواد والشعب اللغوية العلمية والتكنولوجية والإعلامية، وتلك التي لها علاقة بالتربية على القيم، والعمل في اتجاه التخفيف من المواد والبرامج، وإعطاء أهمية أكبر على مستوى التكوين والتعلم لمنطق الكيف ولتعزيز المهارات المنهاجية والذكاءات والكفاءات والقدرات الذاتية، والتشجيع على الإبداع والابتكار والنقد... وتجاوز منطق التلقين والشحن والمقاربات الديداكتيكية التقليدية بالنسبة إلى المدرسين (كما تدعو إلى ذلك الديداكتيكيات الحديثة).
والأهم هو ضرورة تركيز واستهداف كل مجهودات أي إصلاح على الرباعي الحاسم في نجاعة ونتائج المنظومة التعليمية: القسم، من حيث العدد والتجهيزات والوسائل الحديثة وجودة وجمالية وسعة وصحة البناء، والأستاذ، من حيث توفير ظروف العمل الجيدة والشروط المادية والاجتماعية المريحة والتكوين الجيد، والتلميذ، من حيث دعمه البيداغوجي والنفسي والاجتماعي والصحي، وتحفيزه على الاجتهاد والجدية والالتزام والتفتح،والبرامج والمناهج ونظام التقويم والإشهاد والكتب المدرسية، من حيث جودتها وحداثتها وفعاليتها وملاءمتها...
كما يتعين التطبيق الجيد لمبادئ وآليات الحكامة الجيدة، خصوصا من حيث التدبير العقلاني والفعال، والإشراك، والشفافية والتقييم والافتحاص المستمران، وربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد شرطي الكفاءة والنزاهة في تقلد المسؤوليات والقيادات التدبيرية، والعمل في أقرب وقت على حل إشكال الاختيارات اللغوية ولغات التدريس في التعليم المدرسي وعلاقتها بالتعليم الجامعي والعالي، وتفعيل مقتضيات الدستور الجديد في جانبه التربوي والتعليمي، وتنزيله السليم في منظومة التربية والتكوين.
أخصائي تربوي
محمد الصدوقي