الحركة - 19/12/2008
تعليمنا التائه بين المخططات الثلاثية والخماسية !!
يونس شهيم
ما أشبه اليوم بالبارحة! إن المتأمل لتاريخ العملية التعليمية ببلادنا منذ فجر الاستقلال إلى اليوم يكاد يجزم على أن نظامنا التعليمي يدور في حلقات مفرغة! وما الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي خصصت له عشرية كاملة في محاولة للزيغ عن عادة الخماسيات والثلاثيات، وكذلك البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم الذي عاد بنا مرة أخرى إلى عادة المخططات الثلاثية! (2009-2012)، ما هما في الحقيقة سوى استمرار لدوامة الحلقات المفرغة!
وأنا أنهل من ملفات الذاكرة الثقافية للأستاذ محمد عابد الجابري في مواقفه الشاهدة على قضية التعليم، التي تطرق إليها في الكتاب رقم 13، خلصت إلى قاعدة "التاريخ يعيد نفسه!" والى فكرة: "عمر بابور التعليم في المغرب ما يقلع.
فقد أعاد أستاذنا الجابري إلى الذاكرة كيف كانت حالة التعليم في عهد الحماية؛وكيف خطط له ليكون تعليما خاصا بنخبة ضيقة جدا، نخبة تتكون أساسا من العائلات الأرستقراطية وكبار التجار.
والواقع اليوم يتحدث عن تعميم تعليم لا يراعي في أجنداته سوى النسب والأرقام! ليظهر أمام الغير بوجه مشرف ؛مع ترسيخ المثل:"آلمزوق من برا آش خبارك من الداخل"؛متجاهلا في الآن ذاته المشاكل التي يمكن أن يخلقها هذا التعميم؛من قبيل الاكتظاظ المهول الذي قد يفوق 50تلميذا في القسم الواحد!وكذا أماكن التدريس وفضاءاته من مدارس وحجرات ملائمة؛وموارد بشرية مؤهلة كافية لمواكبة عملية التعميم.
ولم يقم هذا النظام التعليمي المستجد أدنى اعتبار للمستوى؛بحيث أصبحنا نتحدث عن عملية الانتقال الآلي للتلاميذ من قسم لآخر دون السماح لهم بالتكرار؛خاصة في المرحلة الابتدائية؛بدعوى محاربة الهدر المدرسي!وفي المقابل نجد نوعا آخر من التعليم؛ذاك الذي توفره المدارس الخاصة ومدارس البعثات والموجه لنخبة خاصة من هذا البلد الأمين !هذا النوع الأخير هو الذي يزود الوطن بالكفاءات وهو الذي يوفر فرص الشغل؛ بينما التعليم العمومي فلا ينتج سوى أفواجا من البطالة ! إذن لا شيء قد تغير في واقع الأمر منذ عهد الحماية إلى اليوم ! وهنا يكمن عمق الشعار الذي ترفعه النقابات التعليمية في وقفاتها:"هذا تعليم طبقي ولاد الشعب في الزناقي".
وهو ينتقل بنا -الأستاذ الجابري- من مرحلة إلى مرحلة في رحلة الإصلاحات التي تعرض لها هذا القطاع؛الذي يصنفه البعض على أنه قطاع غير منتج إما لجهل أو لكيد !! (لا أريد الخوض في مقامي هذا عن النوايا)؛ رحلة الإصلاحات هذه التي انطلقت بتكوين اللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1957 والتي كلفت بوضع "مذهب تعليمي"يؤسس ل"المدرسة الوطنية المغربية"تقوم على المبادئ الأربعة:التعميم؛التعريب؛التوحيد؛ومغربة الأطر.هذا التعريب الذي ظل مجرد شعار أجوف للاستهلاك لا أقل ولا أكثر-كما جاء على لسان ذ.الجابري في المرجع ذاته-وانتهاء بتكوين المجلس الأعلى للتعليم والذي وكلت إليه مهمة رفع تقارير دورية عن حالة المنظومة في ظل الحديث عن الإصلاح الاستعجالي(2009-2012)؛ومرورا بالمخطط الخماسي الأول(1960-1964)الذي أخذ على عاتقه تعميم التعليم؛إلا أنه أجهض بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم والانقلاب على برنامجها التحرري.ومرورا بالمخطط الثلاثي(1965-1968)؛وهو ما سمي بالليبرالية الواقعية؛التي عملت على تقليص قاعدة التعليم.ثم إحداث المجلس الأعلى للتربية الوطنية في يونيو1958؛ثم مذهب بنهيمة:وزير التعليم في الحكومة التي تكونت على إثر حوادث الدار البيضاء؛بعد إعلان حالة الاستثناء وحل البرلمان (7يونيو1965)؛هذا المذهب الذي كرس عملية تضييق قاعدة التعليم من الأساس.
وبعده التصميم الخماسي الثاني (1968-1973)؛لم تكن أهدافه كافية لمعالجة مشكل التعميم؛ثم المخطط الخماسي الثالث(1973-1977)؛الذي عرف خلاله المغرب وسائل مالية بفضل ارتفاع أسعار الفوسفات في السوق العالمية،لكن سرعان ما سيعود المغرب إلى حالة الضائقة بعد تراجع سعر الفوسفات. ثم مخطط ثلاثي آخر(1978-1980)؛ الذي كان متواضعا في طموحاته وتوقعاته؛ فجاءت نتائجه أكثر تواضعا.
فتلاه مخطط خماسي رابع(1981-1985)؛ هذا المخطط لم يحقق المطلوب نظرا ل:
1-الجفاف القاسي الذي غطى الفترة بكاملها.
2-ارتفاع سعر البترول وسعر الدولار.
3-نفقات الدفاع عن الأقاليم الصحراوية المسترجعة.
هذه العوامل نتج عنها ارتفاع حجم الدين الخارجي للمغرب؛ فدخل في متاهة جدولة الديون؛ وشروط صندوق النقد الدولي، ومنها التخفيض من نفقات الخدمات الاجتماعية؛ وعلى رأسها التعليم.
ثم مرت سنتا 1986و1987 بدون مخطط؛لتليه مخطط خماسي خامس(1988-1992)؛سمي ب"مخطط مسار"واكتفى بتقديم مقترحات لا تختلف عما يقترح اليوم من إجراءات شفوية.ثم الميثاق الوطني للتربية والتكوين(1999-2009)والذي لم يسلم بدوره من تعثرات قضت على طموحاته.وأخيرا البرنامج الإستعجالي لإصلاح التعليم (2009-2012)؛وهو مخطط ثلاثي آخر تعود معه حليمة إلى عادتها القديمة؛في انتظار مخططات أخرى بعد سنة2012؛يجد معها المغرب نفسه في أسفل الترتيب؛بعدما يتعافى العراق الجريح ويعود لنظامه التعليمي بريقه؛وبعدما تتخلى جيبوتي عن رفقة المغرب في الأذلين!