السعلة الأخيرة
رحت أطرق بابه الموارب عدة طرقات دون جدوى،ولما أطللت برأسي بين الضلفتين رأيته جالسا في آخر الصالة فوق مقعد كبير دون أن ينتبه إلي،وكان رأسه مائلا وكأنما هو في غفوة،وعيناه المتسعتان مثبتتين على الجدار المواجه؟،أخذت أقترب منه بخطوات بطيئة دون أن يتحرك،وحين وقفت أمامه لمصافحته،رفع رأسه بتثاقل نحوي،وأخذ يتصفحني،ورأيت عينيه تنضحان بذلك البياض المنطفئ،وراح يمد يده المنتفخة في وهن قائلا بصوت خافت:أذكر وجهك.
حدق إلي بوجهه الغائب وقال:لم أعد أسمع.
ومد ذراعيه أمامي قائلا:أنظري..لقد أتلفوا شراييني..ولما نظرت كانت كانت الأوردة الكبيرة منتفخة انتفاخا هائلا،ثم أشارإلى الشريان الممتد من الذراع اليمنى،وقال :من هنا يقومون بغسلها،لقد توقفت كليتاي تماما.
فكرت أن أسأله عن أشياء كثيرة لكنني عزلت،ووجدتني أحدق في الباب المغلق للغرفة الوحيدة بالبيت وخيل إلي أنني سمعت غطيطا يأتي من خلفه،وعاودني ذلك الدوار المفاجئ،فجلست إلى المقعد المقابل له وتشاغلت بالتعرف على المكان،واكتشفت أنه بلا أثاث سوى المقعدين ومنضدة صغيرة امامه وكوب فارغ،وكان الضوء منها حادا وخانقا.
أخرج في تثاقل من جيبه عدة أوراق بيضاء مطوية وقلما وعدسة مكبرة،ثم قال:اكتبي هنا ما تريدين قوله بخط كبير.وابتسم،ثم راح يردد بعض أبيات من قصيدة قديمة له بصوت متحشرج.كتبت له على الورقة:قصيدة رائعة.قال:كتبتها على متن قطار،خلال الفترة الأولى من المرض،بينما كنت اتنقل للعلاج.
شرد طويلا ثم استطرد:أذكر وجهك جيدا.وصمتنا ،للحظات طويلة،رحت خلالهخا أفكر بمعاناته الطويلة مع المر.
ثم راح يعبث بالكوب الفارغ هامسا:هل معك خطابات لي؟
أشرت برأسي بالإيجاب.
أخرجت الخطاب من حقيبتي،ناولته له وراح يخرجه من الغلاف بحذر ولمحت شيكا ملحقا به.قال:لولا الأصدقاء...
شعرت برغبتي في الماء فتناولت الكوب الذي أمامهوأشار إلى الحمام فمضيت،وكان الحبل المعلق في منتصفه مزدحما بغسيل لم يجف بعد.
عدت إلى مقعدي وحين فرغ من قراءة الخطاب أخذ يتأملني بنظراته المرهفة وقال:هل تأخذينني إلى النهر؟
أريد أن أراه.
ابتسمت بصعوبة وأنا أشير برأسي، ورأيته يحدق في الفراغ وأطراف أصابعه تنقر نقرات خافتة فوق مسند المقعد، ثم قال:ستأخذينني إلى النهر؟؟كتبت:نعم،غدا سآتي.
قال:اتركي الباب مواربا.
ورحت أنزل الدرج وضوء الصالة يبتعد،وفي العتمة سمعته يسعل فخفق قلبي بقوة، وعدت أصعد الدرج في هلع وسرعة وأناأنفخ برشاش الربو في فمي..
الحرية
فبراير2009