الــــــــزوجة الثانية ...
مرت الأيام والسنون , وهاجر تعيش مع سيدتها سارة , وكان يؤلمها أن تري سيدتها وسيدها لا ينجبان , فقد تقدمت بهما السن ولم يرزقهما الله ولداً .
وذات يوم طلبت السيدة سارة من هاجر أن تناولها كوب من الماء , فأسرعت هاجر وملأت كوباً بالماء العذب , ودخلت علي سيدتها سارة , تقدمه لها في أدب واحترام , فلاحظت هاجر أن السيدة سارة تنظر إليها نظرة طويلة متفحصة , وتتأمل فيها بدقة , ولم تكن سارة قد نظرت إليها مثل هذه النظرة من قبل , فخشيت هاجر من هذه النظرة , وأحست أن وراء هذه النظرة شيئاً ما , ولكنها لم تعرفه , لأن سارة لم تتكلم معها في شيء في هذا اليوم , وظلت سارة تنظر _بعد ذلك_ إلي هاجر عدة مرات , كأنها تريد أن تقول لها شيئاً ولكنها تتردد أن تخبرها به .
وبعد أيام , استدعت سارة جاريتها هاجر , وقالت لها : لعلك تعجبتي من نظرتي إليك في الأيام الماضية ؟ فقالت هاجر : نعم ياسيدتي . فأخبرتها سارة أنها كانت تنظر إليها لأنها قررت أن تهبها لزوجها إبراهيم كي يتزوجها , وقد كانت مترددة في هذا الأمر , ولكنها اطمأنت إليه , لعل الله يرزقه بولد منها يسعد به إبراهيم , وهي لن تجد له خيراً من جاريتها وصديقتها هاجر , لأنها لن تتعالي عليها ولن تسيء معاملتها .
وترددت هاجر في أول الأمر , خوفاً من وقوع الشحناء أو البغضاء أو شيء من الغيرة بينها وبين سيدتها , ولكن سارة أقنعتها بضرورة ذلك , وألحّت عليها , فوافقت هاجر علي ذلك , وسعدت به , لأنها ستكون زوجة لنبيٍ كريم , وهو خليل الله إبراهيم عليه السلام .
وبالفعل وهبت سارة هاجر إلي إبراهيم عليه السلام فتزوجها إبراهيم , وعاش معها , وشاء الله عز وجل أن تحمل هاجر , وظهرت عليها علامات الحمل بمرور الأيام , وبدأت سارة تشعر بشيء من الغيرة , وكانت هذه الغيرة تزداد يوماً بعد يوم , ومرت شهور الحمل , ثم وضعت هاجر مولوداً جميلاً سماه أبوه " إسماعيل " وسعد به سعادة كبيرة .
هــــــــــاجر في الصحراء ...
بعدما ولدت هاجر ولدها إسماعيل رأت سارة أن حب إبراهيم زاد لهاجر وولدها , فقد صارت هاجر الجارية أم الولد , وأنجبت لإبراهيم ما كان يتمني , فاشتدت الغيرة في قلب السيدة سارة , فطلبت من إبراهيم أن يبعد عنها هاجر وابنها , وأخذ إبراهيم يفكر في حل هذه المشكلة , وإذ بأمر الله يأتيه يطلب منه أن يأخذ هاجر وابنها إلي صحراء مكة ويتركها هناك .. وتلك هي إرادة الله وحكمته , فاستجاب إبراهيم لأمر الله , فطلب من هاجر زوجته أن تحمل ابنها وتستعد لرحلة طويلة . وكان الطفل رضيعاً لم يفطم بعد , فقامت هاجر مع إبراهيم , وحملت ابنها , وسارت معه وسط أرض مزروعة جاءت بعدها صحراء قاحلة ثم جبال , حتي وصلوا إلي وادٍ في صحراء الجزيرة العربية ليس فيه زرع ولا ماء ولا أنيس ولا جليس ولا شيء من علامات الحياة , فهبط فيه إبراهيم , وأجلس فيه زوجته هاجر وابنها الرضيع , ولم يترك لهما سوي بعض التمر وقليل من الماء , ثم استدار بوجهه يريد العودة لفلسطين , فتعجبت هاجر من فعله , وخشيت علي نفسها وولدها في هذا المكان , فنادت علي إبراهيم فلم يرد عليها , فأسرعت خلفه وهي تقول : يا إبراهيم , أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه شيء ؟ فلم يجبها , وظل يسير , فأعادت عليه كلامها مرة بعد مرة , وهو صامت لا يقول شيئاً , فأحست هاجر أن إبراهيم ينفذ أمراً من أوامر الله , فهو نبيه ورسوله , فقالت له : هل أمرك الله بهذا ؟ فقال دون أن يلتفت : نعم . وهنا ظهر يقين هاجر رضي الله عنها , وشدة إيمانها بالله وتوكلها عليه , فقالت : إذن لن يضيعنا الله . وعادت إلي رضيعها تحمله , بينما استكمل إبراهيم عليه السلام سيره حتي اختفي عن عينها , فرفع يديه إلي السماء وقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) . ثم عاد إلي فلسطين .
جلست هاجر تأكل من التمر وتشرب من الماء وترضع طفلها في هذه الصحراء القاحلة , وبعد يومين نفد التمر والماء , وجف لبن الأم , وراح إسماعيل الرضيع يبكي من الجوع والعطش , فوضعته أمه علي رمال الصحراء , وانطلقت تبحث عن ماء أو شيء , وظلت تسير حتي وصلت إلي جبل الصفا فصعدته , وراحت تنظر بعيداً , ولكنها لم تجد شيئاً , فعادت إلي ابنها الذي يتلوي من شدة الجوع والعطش , فلم تصبر علي رؤيته بهذه الحالة , فتركته وسارت إلي الجهة الأخري حتي وصلت إلي جبل المروة , فصعدته , ونظرت , فلم تجد شيئاً , فعادت إلي الجهة الأخري فلم تجد أحداً , فهرولت إلي المروة تنظر من فوقه , وهكذا راحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلين دون جدوي , حتي أجهدها السعي , فعادت إلي ابنها وهي تبكي من الجوع والعطش والتعب الشديد .