خلاصات
أما بعد، ماذا نحتاج لكي يندمج التراث الشفاهي المغربي في النسق العام للثقافة شعبيها وعالمها. وكيف يمكن أن نجعله تراثا فاعلا سواء في فهم التاريخ الثقافي للأمة أو في استشراف آفاق المستقبل والمساهمة في بناء غد لا يتنكر لتاريخه وقيمه ويتجاوز ثنائيات واهمة جعلت جزءا منها تراثا للعامة وآخر تراثا للنخبة؟ كيف نوثق هذا التراث ونؤرخ له ونعثر على ما ضاع من نفائسه؟ ليس هذا مقام الإجابة أو الحسم في مثل هذه الأسئلة لأنها تستلزم عملا تتضافر فيه جهود كل أطياف المجتمع ومؤسساته ومثقفيه. لكنني أضع مع ذلك بعض المقترحات: ربما تحتاج بيبليوغرافيا جديدة وشاملة وفعالة للملحون وربما للفنون الأخرى إلى اعتماد قاعدة معطيات محوسبة بعدة دخلات بالأعلام والموضوعات والمعجم أو التركيبات المعتمدة حسب مصطلحات الملحون والتي أفرد لها محمد الفاسي حيزا تعريفيا خاصا ومسهبا.
ستسهم هذه الببليوغرافيا المحوسبة في تفادي مزالق التوثيق التقليدي والذي يكون منتهيا بمجرد الفراغ من إنجازه، بينما يمكن التوثيق المحوسب من تتميم النواقص وملء الفراغات والقيام بعمليات تطوير وتعديل متواصلة لتراث لا يمكن الادعاء بإمكانية الحسم في التأريخ له دفعة واحدة. إن التأريخ يحتاج إلى الوعي ومن ثم إلى التمييز بين الانتماءات الجغرافية وخصوصياتها الثقافية واللهجية والتخييلية (رغم أن النموذج الثقافي واحد) وفروق الأجيال والعقود وأيضا فروق الاهتمامات والمهن الأصلية للشعراء والأشياخ ومحاولة وضع ذلك ضمن بناء نموذج ثقافي تتحدد من خلاله الفروق وأيضا الانتظامات الدالة على وحدة المجال الذهني والإبداع والانتماء إلى فضاء جغرافي حضاري تغتني فيه الوحدة بالتعدد. ينبغي أن يتضمن التأريخ كذلك كل المعطيات النصية والموضوعاتية المكونة لنسيج هذا المتن لأنها أساسية في فهم خلفيات الإنتاج والتلقي وأهمها معالم المحكي، ومستويات الحجاج والمناظرة في المتخيل، وأساليب توظيف تقنيات البلاغة في المصطلح واللغة والإيقاع وتقنيات الحساب والإضمار (مثل إضمار الاسم في ثنايا كلمات القصيدة) وهو ما اصطلح عليه بالتسمية حيث لا يذكر الشاعر اسمه صراحة بل يضمره وعلى المتلقي أن يفك الشفرة. ينبغي أن يكون التأريخ للملحون مرتبطا أساسا بتصور دقيق لمنهجية التأريخ والتوثيق للثقافة الشفاهية (التي انتقلت إلى التدوين)، وتمثل خصوصياتها المعرفية والاجتماعية قبل وبعد التدوين. لا ينبغي أن ننسى هنا أن التأريخ للموضوع الأدبي يرتكز على مبدأ الماضي الذي ينظر إليه من خلال الحاضر وبالتالي فهو نظر مبتور ومحول ومتخيل كما يقول كليمون موازان (ص11) من كتابه ما هو التاريخ الأدبي. وبالتالي فإنه ينبغي الوعي بما يفعله تاريخ الفن والأدب فاعتبار شيء ما وقع في الماضي في وسط معين ثم وقع في النسيان أو الإهمال أو سوء التقدير، يحتم ضرورة استحضاره من جديد في الذاكرة أي إبداعه من جديد (موازان ص12). وهو الأمر الذي يحتاجه تاريخنا الشفهي لأن نقله إلى التدوين والتداول العالِم فضلا عن تداوله الأصلي الغنائي سيجعل منه مجالا جديدا للبحث والفهم والتفسير لكل تاريخنا الثقافي الشعبي والعالم.
إن محاولات البحث والتأريخ لهذا التراث (عباس الجراري، محمد الفاسي، عبد الرحمان الملحوني، أحمد سهوم...) تعد لبنة أساسية للسعي نحو إقامة فريق عمل متكامل لتوسيع العمل وتتميمه. وأعتقد أن هذا العمل ينبغي أن يتجه إلى التأريخ لأعلامه المعاصرين غير المذكورين في التراجم المتوافرة (مثل الحاج امحمد ناظم من سلا، والحاج عبد العالي الفيلالي بلحاج من فاس)، أي إلى القيام بعمليات حفر واستعادة للمنسي من هذا التراث قديمه وحديثه. إن التوثيق لهذه النصوص الحديثة والبحث عن النصوص الضائعة المتفرقة في الخزانات وفي بطون الكتب وربما في الزوايا وعند من بقي من حفاظ وخزنة، توثيق للذاكرة الثقافية للمغرب وحمايتها من النسيان والاحتراق.
عملا بمبدأ تكامل المعرفة فإن جهود البحث في التراث الشفاهي بمجمله ينبغي أن تخضع لقواعد وقيم التواصل والحوار العلميين، وإلا فما فائدة التاريخ للملحون ولتراث الآلة وللأهازيج والعيوط والرقصات الشعبية إن لم ننته إلى إقامة مختبرات بحث تضم كل المعطيات والنتائج وتنتهي إلى تكريس قيم وحدة الأمة وتماسكها من جهة وإلى قيم فهم ومناقشة الاستنتاجات المرتبطة بتاريخ المتخيل الشفاهي في المغرب إجمالا من جهة أخرى، وعلى فهم التوابث والمتغيرات الفنية والاصطلاحية التي أحاطت بكل نوع على حدة.
خلافا للمناخ الفقهي الذي نشأ وترعرع فيه الشعر الفصيح في المغرب والذي لم يكن فيه حضور للمرأة الشاعرة إلا ما ندر، فإن المرأة تبدو حاضرة بما يناسب قيم الثقافة المحافظة التي سمحت بتداول النظم والإنشاد والغناء والرقص ضمن حدود الإكراهات الاجتماعية والدينية والأخلاقية رغم أنها منعت بشكل مضمر تداول الأسماء والتعريف بالشاعرات والمنشدات إلا في بعض السياقات الخاصة. يدل هذا على دور ومساهمة المرأة في جزء من قيم الفن والحضارة في المغرب القديم خصوصا في فاس ومراكش (الرباعيات، التعياع، المطايشة، التبحبيح...). أذكر هنا بعض الأسماء التي وردت في تراجم شعراء الملحون لمحمد الفاسي (588شاعرا) وهي: لالة حبيبتي (مراكش أيام سيدي محمد بن عبد الرحمان)، عائشة الحنفية وهي زوجة مولاي عبد الرحمان مول العودة، منانة الحضرية (سلا أوائل ق14 ولها ضريح في حومة باب سبتة)، لالة خدوج الذكارة، الحاجة العزيزية (فاس)، لالة هشومة بنت الحاج عمر بلقاسم (مراكش)، الحاجة هشومة زوجة الحاج عبد السلام ياجور وأخت لالة حبيبتي...الخ.
إن توثيق التراث الشفهي ضرورة حضارية وعلمية لحفظه من الضياع والنسيان، إلا أن الأمر لا يخلو من خطورة لأن الانتقال إلى التدوين يغامر بتشويه أو ضياع الحمولة العميقة لمحيط الإنتاج الشفوي من الأصوات والإشارات والأزياء والمعاني المرتبطة بتداوله شفويا. ومن ثم ينبغي التفكير عمليا وعلميا في الوسائل الكفيلة بالتوثيق مع حفظ الخصوصيات الشفاهية لهذا التراث والضامنة لهيمنة نفس الروح الأصيلة.
وبعد، يوضح محمد الفاسي في مقدمة معلمة الملحون السياق والظروف التي جعلته ينخرط في البحث في أصول الثقافة الشعبية الشفاهية المغربية والتي حذت به أولا بإيعاز من مثقفين فرنسيين إلى نشر حكايات شفوية فاسية باللغة الفرنسية وكان قد حفظها من المأثور أو سمعها من أفواه النساء، قبل أن يبدأ لاحقا العمل على نصوص شعرية منها رباعيات نساء فاس ونصوص الملحون المتفرقة.
وقد بدت لي هذه التجربة عميقة في تحديد السياقات التي تؤرخ للذاكرة الثقافية للشعوب من خلال التدوين أولا تم من خلال الترجمة ثانيا. ويوجد في كثير من البلدان مثقفون ينخرطون في كتابة سير لغير المشاهير يتم نشرها وتعميمها بين الناس إيمان بأن الذاكرة الثقافية لا تخلد فقط نصوص الكبار، بل وأيضا كل التجارب الإنسانية التي يراها أصحابها جديرة بالنقل والتعميم.
يقول أحد الكتاب الأفارقة: "كل شخص مسن يفارق الحياة هو مكتبة تحترق" « Chaque personne âgée qui meurt est une bibliothèque qui brûle » التراث كنز يوجد في صدر كل إنسان عاش داخل ثقافة ومجتمع، وقد لا يسعفه الزمن لينقله وظروف العيش لينقله إلى الآخرين. ومن ثم فإن التراث الشفهي الذي حدث وراج وسافر بين الأقوام والأمكنة في حاجة إلى حفظه وتنميته وتوثيقه وتبويبه. فمتى وكيف نستطيع بوعي أن نؤرخ ونوثق تراثنا قبل أن تحترق المكتبات المحفوظة في صدور أصحابها وحافظيها وناقليها ومتداوليها؟
المراجع
1. محمد الفاسي، معلمة الملحون، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية
2. عباس الجاري، القْصيدة – الزجل في المغرب
3. أحمد سهوم، الملحون المغربي، منشورات شؤون جماعية، 1993
4. عبد الرحمان الملحوني، الزجل المغربي الملحون بين الإنشاد والتدوين، دار الفرقان للنشر الحديث 1992.
5. والتر ج. أونج، الشفاهية والكتابية، ترحمة د. حسن البنا عزالدين، سلسلة عالم المعرفة، ع. 182 – 1994.
6. Clément Moisan, Qu’est- ce que l’histoire littéraire ? Ed, PUF, 198