إن كل من يشاهد هذه الأيام صور غزة و هي ترزح تحت وطأة النار و الحصار و الدمار ، ويعاين الجحيم الذي طال لهيبه الأطفال و النساء و الشيوخ ، لا يملك - بعد الشعور العميق بهول الفاجعة التي ألمت بأهلنا في فلسطين - إلا أن يصرخ متسائلا : لماذا وصلت بنا الأمور إلى هذا الحد ؟ متى تصحو ضمائرالعالم من سباتها إن لم تصح أمام هول هذه الجريمة النكراء ؟ و أين المدافعون عن حقوق الإنسان و المنافحون عن كرامته ؟ من يسمع صراخ الأطفال الذي ضاع وسط *** المدافع و رعب الطائرات المغيرة ليلا و نهارا ؟
الحقيقة المؤلمة أن الكلام عن حقوق الإنسان و المعاهدات الدولية التي تحمي الأطفال والمدنيين والمجتمع الدولي الذي يضمن هذا كله بات ضربا من الوهم في عالم لا يعترف بالأوهام ، حيث أصبحت لغة المصالح هي الأكثر تداولا لدى الجميع ، وصوتها يعلو و لا يعلى عليه . بل إن هذه المسألة أصبحت أداة استراتيحية يتم بواسطتها تكبيل الأنظمة لضمان ولائها و اصطفافها مع القوى العظمى كلما دعت الضرورة إلى ذلك .
و على هذا الأساس ، يمكن فهم صمت معظم الدول العربية عن ما يجري من إبادة يومية في غزة ، فمعظمها ، إن لم نقل جميعها ، تحكمه، شاء أم أبى ، مصالح اقتصادية وسياسية مع الغرب و على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي فعلت كل شيء لضمان حماية إسرائيل . و لعله من المفيد التذكير بمعاهدة كامب ديفيد التي حبكت خيوط بنودها الولايات الأمريكية بشكل يضمن عدم قيام مصر بأية مغامرة عسكرية في المستقبل ، مقابل استفادتها من بعض المعونات المالية .
و لم يقتصر الأمر على ذلك فقط ، بل تم بشكل منهجي إشهار بعض البطائق الصفراء قي وجه مختلف الأنظمة العربية كلما أحس الغرب بمحاولة منها للاستقلال بالقرار السياسي أو مجرد التأخر عن السير في موكب التبعية له. و هكذا ، تم إعداد عدة أوراق ضاغطة مثل قضية الأقباط في مصر والهوية الأمازيغية في بلدان المغرب العربي ، و دارفور في السودان ، وتم تحميل السعودية وفق سيناريو محكم جزءا من أوزار هجمات الحادي عشر من شتنبر لإرباك مواقفها المستقبلية ، تماما كما يتم الآن تحميل سوريا كل ما يحدث من اغتيالات و مشاكل في لبنان . بل من المؤسف أن تنخرط دول عربية مثل الجزائر- من تلقاء نفسها - في هذا المخطط و تقوم بشل اتحاد المغرب العربي عبر خلق ما يسمى بالبوليساريو .
أما بالنسبة لدول ما يسمى بالاعتدال فقد تم استدراجها – ضمن استراتيجية اختراق كل الصف العربي - إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عبرتشجيعها على فتح متبادل للسفارات أو المكاتب ، كما هو الشأن بالنسبة لموريطانيا على سبيل المثال لا الحصر .أما دول الممانعة التي أظهرت تصلبا في مواقفها و أرادت أن تغرد خارج سرب الدولة العظمى فقد تم تقليم أظافرها بالكامل كما حدث بالنسبة للعراق الذي لفقت له تهمة امتلاك سلاح الدمار الشامل و تم احتلاله عن آخره .
لهذا ، لايمكن القول بأن الدول العربية تشكل تهديدا لمصالح الغرب أو يمكنها التأثير على قراراته لأنه تم تكبيلها مسبقا ، فالغرب فطن جيدا إلى قوة عوامل الوحدة التي تجمع الدول العربية ( الدين واللغة و الجغرافية ) و نصب لها - في غفلة ساذجة منها- فخ ارتباط مصالحها الحيوية به عبر مراقبة و تعطيل كل المشاريع القومية و النهضوية و جعلها سوقا استهلاكية لمنتوجاته .
كل هذه العوامل و غيرها زادت في تكريس تبعبتنا و ساهمت في خلق جو من عدم الثقة بين الأنظمة العربية ، و أدت في بعض الأحيان إلى تواطؤ البعض لخطب ود الغرب ، مما خلق جوا من العجز و الإحباط في المنظومة العربية ، و لا أدل على ذلك من هرولة مصرو أطراف أخرى نحو تركيا والاتحاد الأوربي لحل قضية كان العرب أولى بالتصدي لها داخل أروقة الجامعة العربية .