سنة مرت على عودة بشرى من العاصمة الاقتصادية, اهتمت فيها بتعلم بعض الأشغال اليدوية , و إنتاج مصنوعات بسيطة لقيت رواجا , أخرجها و أسرتها من العسر إلى بعض اليسر .....و أثبتت للناس بطلان الشائعات, عادت الحياة لتبتسم لبشرى في خجل, فإذا الابتسامة تتسع... تتسع ....و تتسع ....لتصبح سعادة عندما أقبل مفتش شرطة إلى المدينة , يبحث عن فتاة, سجلت دخولها الى حياته في أصعب مراحلها .... و أخذتها الحافلة بعيدا , لكنها لم تبتعد أبدا عن تفكيره ...ما نسي أبدا شفتين جميلتين تحكيان... وعينين حزينتين تدمعان ....و يدين ناعمتين ترتجفان..... لهول الذكريات .
شهدت زواجهما وفرحت لفرحهما ....... لكن فرحة بشرى ينقصها قليل من ثقة زوجها , الذي صعب عليه التخلص من شكوكه , كيف يثق في امرأة وقد خدع لمدة ثمان سنوات من التي كان يقسم بشرفها ...؟.أحزنني أن ينغص سعادتها بقايا تجربة سابقة , غير أن بشرى تعلمت الصبر , و كما أثبت أن الرجال ليسوا سواء , فيجب أن تثبت له أن النساء ....أبدا لن يكن سواء . صبرت و احتسبت ..... حتى أنجبت ابنتها , التي أراد الله سبحانه أن تشبه أباها و تغير أحواله من الحسن إلى الأحسن ......
حملت صينية الشاي إلى الغرفة , لم تعرني إيمان أي اهتمام و كذلك جارتي , كانتا منشغلتين بترتيب قطع لعبة, واحدة فوق الأخرى , ابتسمت ...و إلى المطبخ عدت لأحمل طبق "المسمن" وقد دهن بالزبدة و العسل ....مع أني لا أتذكر ...متى خبزت ...؟ متى دهنت ....؟و لا متى أنهيت .....بهذه السرعة!!؟ ابتسمت لضحكات إيمان المتعالية ,كلما تمكنت من هدم الصرح الذي تبنيه صديقتها من قطع اللعب الملونة حتى تبدأ في إصدار أصوات و كأنها تقول :"هيا , مرة أخرى ".غير مبالية بتعب رفيقتها .
-"هل ستنضمين إلى المائدة ؟ أم أنني سأستمتع بالأكل وحدي؟" التفتت جارتي إلى المائدة و قد أظهرت فرحتها بما وضع عليها ,لكنها نظرت إلى إيمان في إشفاق ... و قالت:
-"تعرفين ان ابنتك ستبدأ بالبكاء بمجرد ان التفت عنها " لا ادري ان كانت تشفق على نفسها أم على إيمان!؟
-"ابنتي ليست مشكلة ... سمي الله و ابدئي.... سأهتم بها..." حملت الصغيرة بين ذراعي ,جلست من الجهة المقابلة لجارتي و انتظرت في أدب الضيوف ان تصب لي الشاي بطريقتها الجميلة , فقد كانت ترفع البراد بطول ذراعها , و قد كانت طويلة القامة .
-"اجتازت أختك مراحل صعبة في بداية حياتها ...الحمد لله ...جزاها الله خيرا على صبرها و جعل خاتمة قصتها مسكا".
-"لقد اشتقت إليها .....إنها الأكثر طيبة و الأكثر جمالا بيننا ....كانت أمي توثرها علينا ".
-"هل تصدقين إذا قلت لك أنني أحببتها و أتمنى رؤيتها , أعجبتني بقوة شخصيتها ,تشبثها دائما بالأمل , ثقتها القوية في الله و أيضا الصبر....لقد كانت فعلا نعم الصبورة".
-"لولا البعد لكانت زارتني هنا .....لأسعدني ان أعرفكما على بعضكما البعض".
توقفت جارتي عن الكلام لتملأ فمها من جديد بقطعة من " المسمن" و تتبعها جرعة شاي , وقد كانت تصب الشاي لنفسها كلما فرغ كأسها وكذلك تفعل معي,بينما إيمان بحثت في صدري ...وجدت ما تريد .....و استكانت ....
كنت انظر إلى جارتي في تعاطف, كانت تستلذ طبخي وتكره كل ما تعده بيديها , و ما زاد من تعاطفي و تأثري بحالها تعرضها لنفس أعراض الوحم التي ألمت بي سابقا ,إذ أصبحت تكره دخول مطبخها أو فتح ثلاجتها و أكثر من ذلك الشرب من ماء الصنبور و بصفة عامة كل الروائح على اختلاف ألوانها ومصادرها داخل بيتها , و ما زاد الطين بلة أنها بعيدة كل البعد عن والدتها و القشة التي قصمت ظهر الجمل غياب زوجها اليومي إذ يغادر إلى عمله من السادسة صباحا إلى السادسة مساءا ......حالها ليس مثل حالي تماما فقد كنت أوفر حظا منها ....كانت أمي الحنون تتعب نفسها و تعد كل ما اعتقدت انه سيفرحني في فترتي تلك و ترسله مع أخي الصغير الذي كان يعترض, لطول الطريق و تقطع المواصلات , كان زوجي يعترض أيضا بدعوى انه يحضر كل ما أطلب ...و لكن الجميل في تصرف أمي الحبيبة أنها تعرف ما أريد و ترسله .....دون أن أطلب ........ابتسمت ابتسامة عريضة لهذه الذكريات الرائعة التي هاجمت مخيلتي, وأنا انظر إلى جارتي التي انتبهت فجأة و قالت في مرح:
-"لماذا تبتسمين ؟ تضحكين علي , أليس كذلك ...؟.لأنني آكل بشراهة ..!.لن اهتم.....عندما تنتهين من الابتسام ستجدين الطبق فارغا !!!!"
ضحكت لمرحها و فرحها و عدم مبالاتها و لكني أكدت لها :
-"لا ...لا...يا أختي ...كلي بالصحة و الهناء ...ابتسمت فقط لأنني تذكرت أمي..."
-"هل تأكل أمك كما أفعل.....؟" قالت وهي تصطنع براءة الغباء لتجلب ضحكاتي من جديد.
انفجرت ضاحكة و أنا أشير إليها لتمسح ما علق على شفتيها من فتات....
فجأة سمعنا طرقا على الباب و كأننا متفقتان , رفعنا أعيننا في لحظة واحدة إلى الساعة الحائطية, فابتسمت هي ,بينما أسرعت إلى قول :
-"لا زال الوقت مبكرا على عودة زوجي "
بدأ الطرق من جديد, رجوتها أن تفتح الباب حتى لا تستيقظ إيمان ان أسرعت بوضعها و لم يتمكن النوم بعد منها جيدا.
احتجت جارتي و اعترضت مدعية أنها لا تعرف الطارق , "كيف ستكون ردة فعله عندما يجد نفسه أمام شخص غير أصحاب المنزل" قالت مبررة احتجاجها.
رجوتها من جديد بعدما تكرر الطرق للمرة الثالثة, و قد حملت ايمان بين ذراعي مستعدة لوضعها في مهدها في الغرفة المجاورة .
استسلاما لإلحاحي فقط, ذهبت جارتي عابسة غير راضية لفتح الباب, بينما وضعت الرضيعة النائمة في فراشها الدافئ و أنا اربت على كتفها حتى لا تفتح عينيها و يستعص إعادتها للنوم ,كما أني ركزت انتباهي على الأصوات المنبعثة من الخارج علني أتعرف هوية الطارق أو الطارقة.
كنت أنصت و استغرب ...!!!صرخات فرح و بهجة أصدرتها جارتي مباشرة بعد فتح الباب ,أصوات أخرى نسائية و رجالية لم أميزها لأني على يقين انه لم يسبق لي سماعها , فضولي فاق كل تصور, من ذا عساه يطرق بابي فتستقبله جارتي بكل هذه البشاشة و الحفاوة ؟؟؟.نظرت إلى ابنتي, إنها مغمضة العينين و لكنني اعرفها , بمجرد ان أتزحزح من جانبها ,تفتحهما عن آخرهما و تصرخ منادية بأعلى صوتها ... حرت ماذا افعل؟ فضولي كان اقوى! أسرعت مهرولة إلى الباب ,فإذا بي أمام لمة أسرية من نوع فريد ,كانت جارتي في عناق حار مع شابة تشبهها إلى حد ما, وقفت انظر في ذهول ودهشة ,لم احتر كثيرا لأعرف ان بشرى هي من تحتضن أختها, رفعت رأسي الى ما وراء الشابتين, فإذا برجل يقف ليس بعيدا من الأختين و قد أحس بالإحراج و يحمل بين ذراعيه خولة, إنها خولة ,أنا متأكدة, كما انه زوج بشرى, انه مفتش الشرطة , كانا يحملان معا خالة سوداء فوق حاجبيهما الأيسرين .ألقى تحية لم يسمعها احد منا ولكنني خلته قال :"السلام عليكم" بسرعة وابتعد ليقف أمام باب أخت زوجته دون ان يدري, لقد أحس بان وقفتنا قد تطول , شعرت باني لم اعد انتمي إلى الواقع و كأني انتهيت لتوي من مشاهدة فيلم أعجبني كثيرا فإذا بأبطاله يشرفونني بالزيارة و التحية .
أخيرا افترقت الأختان , وقفت جارتي تنظر إلينا, لم تكلف نفسها عناء التقديم, و بقيت أنا أحملق في بشرى بإعجاب, إنها فعلا جميلة و ان كانت اقصر من أختها قليلا , كانت الطيبة بادية على ملامحها, و لكن في أغوار عينيها لمحت ثقة بالنفس و جلدة و أكاد أقول رجولة.كانت تبادلني نفس النظرات, غير أنها أسرعت إلى تكسير السكون بصوت أخاذ:
-"إذن أنت جارة أختي؟" ابتسمت بحبور و بسرعة أجبتها :
-"و أنت أخت جارتي ! " عانقتها بحرارة ,فانا أكن لها كل الحب و التقدير و لكني تفاجأت بعناقها الحار أيضا ,تساءلت في نفسي عن سببه ؟أجابتني بعفوية على سؤالي الذي لم تنبس به شفتاي:
-"كنت أتمنى رؤيتك, فأختي حكت لي عنك الكثير "
لم أجد ما أقوله أمام عفويتها و صدق مشاعرها ,اكتفيت بالابتسامة التي لم تفارق شفتي . عقدت ما بين حاجبي و أنا انظر إلى جارتي بطرف عيني متسائلة ,مستغربة و حال لساني يقول :"ماذا تراك حكيت عني يا أم الحكايات ؟" و قبل ان ينطق لساني بما قرأته جارتي في عيني من عتاب, أسرعت مبتعدة نحو زوج أختها الذي بقي واقفا أمام الباب في صبر و صمت, تلاهما بضحك متواصل عندما فتحت أخت زوجته الباب أمام دهشته و سمعته يقول :"من الأول نصحت أختك ان تطرق هذا الباب بدل الأخر . ولكنها أبت إلا ان تزعج جارتك "
-"يا أخي ... ليس هناك إزعاج....كان عليها ان تخطىء و تطرق بابي أنا, و إلا كيف لنا ان نلتقي و نتعارف و كل واحدة منا تمني نفسها برؤية الأخرى, و على كل حال من توقعتم رؤيتها هي نفسها من فتحت الباب "قلت معلقة على كلامه, طبعا دون ان يتجاوز تعليقي تفكيري .
لفت جارتي خصر أختها بذراعها الطويلة ,توجهتا معا إلى الباب المقابل لي ,الذي لا يبعد إلا بأمتار قليلة , كنت أراقبهما في صمت . توقعت ان تلتفت إلي لتهديني ابتسامة أخيرة ....ربما من اجل الصداقة...! أو الجوار....! أو شكر على هذه العشية التي قضيناها معا , والتي لم تكن كباقي العشيات. لكنها أخذت جدا بأختها و نسيت تماما جارتها ...!.بشرى لم تنس ...!التفتت إلي و ابتسامتها الجميلة تنير وجهها المستدير ...بالكاد سمعتها تقول :"سنلتقي فيما بعد أليس كذلك ؟ " نعم" ,كل كياني قال :"نعم" دون ان تتحرك شفتاي. بقيت واقفة انظر إلى الباب المغلق و عقلي يسترجع الأحداث.... فطيلة الوقت الذي تحدثنا فيه عن بشرى, كانت تستقل الحافلة مع أسرتها الصغيرة, متوجهة نحونا ... بل نحوي ,لتحقق رغبة تمنيتها دون ان اطمع كثيرا في ان تتحقق!!!
سمعت بكاءا أعادني إلى الواقع , أغلقت الباب و توجهت نحو إيمان ....
لقد تتبعنا أحداث القصة بشغف كبير وقد كانت رائعة حقا أسلوبا و مضمونا و ها نحن أمام الجزء الرابع الذي لا يخلو بدوره من الروعة و التشويق ففعلا هي مفاجأة لكي و للقارئ أيضا تقبلي مروري أختي الكريمة، و أترك المجال لمن هم أكثر دراية كي يقدموا ملاحظاتهم حول اللغة و.... والتي أجدها ممتعة و بليغة دمت مبدعة تحياتي
التعديل الأخير تم بواسطة hanimos ; 05-11-2008 الساعة 23:30
فعلا أنت دسم وذهنيات هذا الدفتر...فقد أسعدتنا بالجزء الرابع...وبشراك ...بشارتنا اذ نتلهف لمعرفة مسارها ....
شكرا أختي أيمانة...ويمن المنتدى...
في انتظار اطلالة ايمانية اخرى...
لك أزكى تحياتي وامتناني...
اهلا اخي intelligentsia انك اول قاريء...حتى انك تركت ردا قبل ان انهي تعديلاتي للقصة
احيي فيك هذا الشغف بالقراءة وجزاك الله خيرا على ردك المشجع
دمت بالف خير