الواو و( الزرواطة ) ما موقعهما من الإعراب !

[محمد السبيطري]

توافد تلاميذ القسم السادس لاجتياز امتحان آخر السنة الدراسية ،زمرا وأفرادا، إلى المدرسة حاملين معهم أقلامهم وقراطيسهم .دخلوا حجرات الامتحان .الكل متوجس ،أبصار شاخصة ،قلوب خافقة خفقان العصافير الواقعةفي شباك صياد متربص حقود .لكن سرعان ما هدأت نفوسهم واستسلموا للأمر الواقع ،بعدما وزعت عليهم أوراق الأسئلة وأوراق التحرير. انهمك الصغار في الإجابة عن الامتحان . وكان الأساتذة الحراس يرقبون إنجازاتهم عن كثب ،فتقع عيونهم على بعض ما خططوه بأناملهم البريئة فيقابلونها بزفرات مثيرة تعبر عن استيائهم من فشل سيرورة العملية التعليمية من القسم الأول إلى السادس ،فلم يتحقق حتى الأدنى من الأهداف كوضوح الخط ،وتنظيم الأجوبة ...


استفزني هذا الوضع المخزي لتعود بي الذاكرة إلى أيام العز التعليمي ،وبالضبط يوم أن اجتزنا امتحان نيل شهادة الدروس الابتدائية سنة 1975 بالثانوية الوحيدة بمدينة العرائش ، و كان الجو صحوا متألقا تألق التعليم آنئذ . والذي مازال منقوشا في ذاكرتي ،ولن أنساه ما حييت هو ما قاله أحد الأساتذة المكلف بحراستنا - سيكون أستاذي في مادة العلوم لاحقا - لزميله ،لما نظر إلى أوراق إجابة بعضنا ،ومنها ورقتي هذا شئ منظم وجميل يعد بالنجاح ) .


نعم . لم يكن حينذاك زخم في الوسائط التعليمية كما هو الآن حيث المعارف مطروحة في الطريق .وأصبحت المكتبات الملآى بآلاف الكتب مختزلة في أقراص صغيرة الحجم ،خفيفة الوزن .ولكن كما يقال - العلم يؤخذ من أفواه الرجال - وليس من على شاشات الحواسيب التي صنعها الانسان و ليس العكس .


انتهى الامتحان كالعادة .جمعت الأوراق ،رتبت وأغلق عليها في أظرفة ليذهب بها للتصحيح ،بل للتنقيط - المصطلح الذي أراه مناسبا – فشتان بين الأول والثاني .


مغبون ،برئ ومظلوم أنت أيها التلميذ المسكين ،وإن كانوا قد منعوا عنك الضرب بالعصا ،فلقد حجبوا عنك حرارة المعرفة بتراخيهم


وأنانيتهم ،وجعلوا من وقتك الذهبي قنطرة يعبرون منها إلى رواتبهم الشهرية التي يختلسونها من الدولة التي وضعت ثقتها كاملة فيهم باعتبارهم بناة أجيالها القادمة .


عاد الأساتذة الحراس بعد انتهاء المهمة إلى مكتب المدير .


- شكرا لكم على قيامكم بالواجب .


ابتهج الجميع لمجاملته . المدير رجل قصير القامة ، مكتنز لحما وشحما ، بطنه منتفخة كالمرأة الحامل ، شعر رأسه بالأبيض والأسود كالتلفزة المغربية في الستينيات والسبعينيات محب للدعابة والمرح،


وإثارة الأسئلة المحرجة رغم مستواه الدراسي الذي لا يتجاوز السنة الخامسة من التعليم الثانوي في النظام التعليمي القديم. وكان يفعل ذلك لأجل أن يصرف الأساتذة عن الخوض في أمور تافهة، أو ربما من أجل أن يستفيد هو من معلوماتهم ، أو يسخر من عجزهم ويحط من عجرفتهم لأن أغلبهم حاصل


على إجازة تعليمية .


لم يكن السؤال فلسفيا ولا معادلة رياضية من الدرجة الثانية ولا سؤالا في علم البيان ولا سؤالا فقهيا معقدا ، و إنما كان بسيطا للغاية :ما إعراب الواو في الجملة الآتيةّ: ( إن ظاهرة التلوث خطيرة ، ومصادرها متنوعة )!


أجاب أحدهم ( و) حرف عطف .


عقب الآخر: لا . ( و) واو المعية .


استنكر آخر : كيف! ماهذا ! إنه واو الحال .


استمر النقاش حادا لمدة ساعة .انتفخت أوداج ،وتطايركم هائل من البصاق من أفواه من يدعون في العلم معرفة ، فأضحى مكتب المدير كقاعة حمام تقليدي تعلوه أصوات المستحمين ، وتضايقك أصوات سطوله القزديرية .


واحسرتاه ! واخيبتاه ! وا نكبتاه ! أين أنت يا أستاذي الذي قضيت نحبك ! أحبك وأترحم على روحك الطاهرة ،وأغرس ريحانة على قبرك ،وأبلل ترابه


بماء الزهر ،وإن كانت قد آلمتني ضرباتك الموجعة فازرقت منها أنامل وراحة يدي الصغيرة ،فإني أبارك يداك وعصاك الطويلة .لقد علمتني كيف أميز بين الواو و(الزرواطة).

إنجاز: محمد السبيطري

[أبو المعاني]

موضوع جمع بين الطرافة والبكاء على واقع مخز بتنا جزء لا يتجزأ منه.
تحياتي لك أخي الفاضل