موت وحصار

[أماني200]

قصة- أبو بكر عثمان
* جلست بين أحفادها ترقب الجوعَ يُظَلِّلُ وجوههم، لم يشبعوا من خبزٍ، ولم يشموا رائحة اللحم منذ أشهر طوال، واليوم تشعر ببعض الرضا، فقد تَصَدَّقَ عليهم جارهم بنصف دجاجة ، نسي الأطفال طعم اللحم، لكنها لم ولن تنسى يافا التي طردوها منها إلى غزة بعد النكبة.
مات الزوج والأولاد في تل الزعتر بالأردن، وصابرا وشاتيلا بلبنان، وفي الانتفاضة، و*** المخيمات، وحينًا بعد حين، وفي بقاع شتى، فقدتْ واحدًا تلو الآخر .
أما هي فقد رُدِّتَ ْإلى أرذل العمر لتظل شاهدة على رحلة الموت والعذاب.. عُمِّرَتْ، وليتها ما عُمِّرَتْ؛ لتشهد ذل العرب، وهوان المسلمين.. أخلدوا إلى الأرض، ورتعوا في الشهوات، وتشرنقوا في خنوعهم..
استشهد الزوج والأولاد، وتركوا لها سبعة أحفاد لم ينبت لهم ريش، كيف ترعاهم وهي أحوج إلى الرعاية، وقد أكلت السنون عظامها الواهنة .. هي لا تكاد تجد لهم الخبز ليسكن بطونًا خاوية عربد فيها الجوع.
طال علينا الحصار لأشهر طوال، واجتمع على حصارنا العدو والحبيب، عجبًا.. كيف اتفق إخوة الدين وأعداء الدين على عمل واحد هو حصار غزة ؟! .. وكأنما كُتِبَ على شعبنا أن يتلقى الطعنات العربية طوال تاريخه منذ عام 1948 وحتى اليوم.
واليوم يخنقنا حصار الجوع والمرض والإذلال، وتقذفنا طائرات يهود بالموت والدمار، بنو جلدتنا يودون أن نمضي عميانا خلفهم ، نخضع كما خضعوا، ونهون كما وهنوا ، هم يقدمون جماجمنا قربانا لصهيون وبني الأصفر كي يظلوا آمنين على كراسيهم.
دخلت عليها جارتها أم ياسين بأرغفة من الخبز اقتطعتها من طعام بنيها، لم تعد هيئة الإغاثة توزع الطحين، باتت مخازنها فارغة، أبى العالم الحر إلا أن يقتلنا ونحن جوعى.
صاحت أم ياسين:
- أبشري يا خالة، ستعقد القمة العربية قريبا..
- أية بشارة يا بلهاء ؟! قمة الشؤم وبشارة إبليس..
- ولم القنوط يا خالة؟
- أنت ما زلت خضراء الأسنان، أنا هنا مرت عليَّ عقود طوال، أنا أعلم منكِ.. ما اجتمعوا إلا وكان ذلك نذير شؤم ووبال على شعبنا.
- لا يا خالة إنك....
- منذ قيام إسرائيل يجتمعون ويجتمعون .. وأرضنا تقضم وتقضم .. وحقوقنا تسلب، وكأن اجتماعاتهم إيذان بفقد أرض أو ضياع حق أو سفك دم .. إنهم يا ابنتي يجتمعون علينا لا لنا.
- لكنهم هذه المرة لن يسكتوا، لقد استحر القتل في غزة.
- ألم أقل إنك حمقاء ، سكتوا على ما هو أكبر ، مجازر العراق وأفغانستان ولبنان ..اعتاد العالم واعتاد إخوان العروبة وإخوة الإسلام على رؤية دمنا المسكوب..هي مجرد فقرة إخبارية مكررة، بعدها يمصمصون الشفاه، ويهزون الرءوس في أسى، ثم ينامون قريري العين.. أدوا ما عليهم وزيادة!
ثم نظرت العجوز في عيون الصغار التي أطل منها الجوع، تناولت سجادة قديمة، بسطتها على الأرض ووضعت عليها الخبز ، وتزاحم حولها الصغار، قبض كل على رغيفه ، وضعت الجدة أطباق الحساء وسط السجادة وتبسمت.
- هيا كلوا يا أولاد.
لكنهم لم يأكلوا لقمة،لم يرتشفوا ولو ملعقة حساء، جَمَّد أوصالهم أزيز طائرات يهود .. أصابت بيتهم بصاروخ جعلته كومًا من تراب.. وتحت الركام امتزج الدم بالحساء، واختلط أنين الأطفال بحشرجة الموت وتمتمة الشهادة ، وأسكت الموت الجميع.
* ولما رفعوا الأنقاض رأوا يد طفل مكسورة قابضة على جناح دجاجة لم تصل إلى فيه ، وآخر وضع لقمة بين شفتيه لم تمضغ ، وجثمان الجدة يحتضن أصغر الأطفال ، الميت على صدرها.
وفي العواصم العربية ومدنها، كانت تهتز أجساد الراقصات وتصب الكئوس ويعلو صوت المغنيات وتجلجل الضحكات في احتفالات نجوم المجتمع وعلية القوم برأس السنة الميلادية.

[خادم المنتدى]

*********************
شكرا جزيلا لك..بارك الله فيك...
**************************