الحمد لله رب العالمين فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ، الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وهدايةً للناس إلى الصراط المستقيم .. أما بعد..
كَثُرَ الحديثُ عن كَوْنِ الإنسانِ مُخَيَّرًا أوْ مُسَيَّرًا في هذه الحياة ، وضَلَّتْ في هذا طوائِفٌ كثيرةٌ. وجعلوا الإنسانَ مالِكًا لأمره حينًا ، ومجبورًا حينًا آخر فضلَّت الطائفتانِ.
نعوذ بالله من الخذلان.
ونحن نقول ونستعين بالله.
الإنسان مُخَيَّرٌ في الكتاب والسُّنَّةِ.
أمَّا من الكتاب :
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) سورة البلد آية 10
أي الطريقين الخيرُ والشِّرُّ ، فمنْ أرادَ الخير ذهب إليه ومن أراد الشر وصل إليه.
مِثالُ لذلك : إذا أذَّنَ المُؤّذِنُ لصلاةِ الفجْرِ وأنتمْ نائمٌ فسمعت صوته ، فإمَّا أن تقوم تتوضأ لتُصَلِّي وهذا طريق خيرٍ ، وإمّأ أن تنام ولا تقومَ للصلاةِ فهذا طريق شَرٍّ .
مثال آخر : مَرَرْتَ بمظلومٍ فنصرته فهذا طريق خيرٍ ، فإذا لم تنصرهُ فهذا شَرٌّ.
مِثالٌ آخر : إمَّا أن تُسلِمْ بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وإمَّا أن تكفر بهذا فهذا تخييرٌ لكَ بين الخير والشَرِّ.
وهذا لا يُعارِضُ أن يكون الأجلُ مكتوبًا ومعلومًا في نهاية عُمُرِكَ لأنَّ الله يعلمُ عواقبِبَ الأمورِ وما إليه تؤولُ. وكيف ستصير وكيف ما كانت لو كانت وكيف ستكون لو كانت وكيف هيَ مآلُها وحالُها. وسبحان الله إنَّهُ على كل شيءٍ قديرٌ.
قال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً(85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً(86) ) سورة مريم
قد أثبتَ اللهُ مثابَ المتقين وجزاء الكافرين قبل خلقهم ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(173) سورة الأعراف
أخذَ اللهُ الميثاقَ على بني آدم قبل وِلادَتِهم من ظهر آدم عليه السلام ، وأشهدهم على أنفسهم أي من شهد بالحق دخل في الإيمان ومن لمْ يشهد بَقِيَ على كُفْرِهِ ، لذلك يقول الله عز وجل لبعض أهل النار :
قال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك فيقول شر مضجع فيقال هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا قال فيقول نعم يارب فيقول الله تعالى كذبت قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه
وقال الإمام أحمد « 3/127 » حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس ابن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال فيقول نعم فيقول الله قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك وهكذا أخرجه البخاري « 3334 » ومسلم « 2805 »
ومن السُّنَّةِ :
1- وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا موسى بن حيان حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا سليمان بن سفيان حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر قال لما نزلت « فمنهم شقي وسعيد » سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله علام نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه فقال على شيءقد فرغ منه ياعمر وجرت به الأقلام ولكن كل ميسر لما خلق له ثم بين تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال « فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد »
2- وقال الإمام أحمد « 1/5 » حدثنا علي بن عياش حدثني العطاف بن خالد حدثني رجل من أهل البصرة عن طلحة ابن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه قال سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر وهو يقول قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف قال بل على أمر قد فرغ منه قال ففيم العمل يا رسول الله قال كل ميسر لما خلق له « رواية علي رضي الله عنه » قال البخاري « 4945 » حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن الأعمش عن سعيد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال ما منكم إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ « فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى » إلى قوله « للعسرى »
.
وَنَزَلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ(3) سورة المسد في بداية الدعوة ، فَقَدْ بَيَّنَ الله عز وجل أنَّ أبا لهبٍ مآلُهُ النارُ قبل أن يموت فهذا دليل على التسيِيرِ ، ومَعَ ذلكَ عابَ على المشركين اتباع آبائِهِم لكي لا يتعذَّروا بحُجَّةِ القَدَر
الإنسانُ مُسَيَّرٌ في السُّنَّةِ
قال تعالى : (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) سورة الأحقاف آية 9 ، قال الإمام أحمد « 6/436 » حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء وهي امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك أن الله تعالى أكرمه فقلت لا أدري بأبي أنت وأمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت فقلت والله لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عمله.
والمعنى أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لا يدري ما يُفعلُ به في الدنيا من حياة أو موت أو قتال للمُشرركين ، او متى ينزل الوحي أو هل يُأمَرُ بالهجرة أو البقاء في مكة ، أو هل يُسلم المشركون أم يبقون على كفرهم. أمَّا الآخرة فمآلهُ الجنَّة بإذن الله بسبب الأحاديث التي وَرَدت بذكر استفتاحه للجنة وشفاعته للناس وغيرها والحمد لله رب العالمين.
وفي الصحيحين « خ 1359 م 2658 » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وفي رواية على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء وفي صحيح مسلم « 2865 » عن عياض بن حمار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
وقال الإمام أحمد « 3/127 » حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس ابن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال فيقول نعم فيقول الله قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك وهكذا أخرجه البخاري « 3334 » ومسلم « 2805 » « طريق أخرى » وقال الإمام أحمد « 3/107 208 » حدثنا روح حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له يا ابن آدم كيف وجدت منزلك فيقول أي رب خير منزل فيقول سل وتمن فيقول ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له يا ابن آدم كيف وجدت منزلك فيقول يا رب شر منزل فيقول له أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهبا فيقول أي رب نعم فيقول كذبت قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار ولهذا قال « أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين »
يعني خُلاصة القولِ أنَّ الله سيَّرَ بني آدم لعِلْمِهِ بمصيرهم في النهاية فقد كتب الله مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض كما في الحديث وقد ثبت في صحيح مسلم « 2653 » من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجبلي عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة زاد ابن وهب وكان عرشه على الماء ورواه الترمذي « 2156 » وقال حسن صحيح غريب
وأيضًا مُخَيَّرٌ حيث وهب له عقلًا يُمَيِّزُ الأشياء والحقَّ عن الباطِلِ ، وسبيلَ الهُدى .
وقد ثبت في الصحيح « خ 5220 م 2760 » عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين وفي لفظ آخر من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه.
لذلك لا حُجَّةَ لأحَدٍ في معصيةِ اللهِ. أو التخاذل عن طاعته أو أن يُشرِك به.
هذا ما استطعنا جمعه بحمد لله وتوفيقه .
ونسأل الله أن يُوَّفِقنا برضوانه إلى السلامة
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ للهِ رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وآله وصحبه أجمعين.
الإنسانُ مُسَيَّرٌ أمْ مُخَيَّرٌ
