قصة قصيرة
سفينة الموت
الرحلة الأولى
ذهبت صوب شباك التذاكر بخطى متثاقلة تحمل بين عضلاتها إعياء يفوق التصورات، والهواجس المرضية تتقاذف إلى ذهن مخبول، مشغول بمشتتات الفكر. أخذت التذكرة من العامل.. نظر إلي نظرات حادة يريد أن يقتلعني من مقامي، ليزيدني هما إلى همومي.. أحسست بدوار كاد يأخذني صريعا، فتمالكت نفسي متخذا من القرفصاء تخفيفا لحدة الدوار.. وبعد لحظات ليست بالقصيرة، حملت جسدي المتثاقل ورحت ألقي بخطواتي أضرب الأرض ضربا وأجوب أرجاء المدينة دون أن تفتنني بهرجتها أو جمال نسائها.. كل شيء ليست له نكهة؛ الفوضى تعم الشارع.. صراخ الباعة المتجولين يملأ الأفق صخبا.. وحديث الشارع يتناقل بين المارة بعضهم لبعض.. الكل في شغل شاغل ،ولا أحد يعلم ما بي من قلق يهشم الصخر ويقتلع الجبال.. أصرخ في عمق ذاتي ..لا أحد يلتفت.. لا أحد ينتبه.. أحملق في الموجودات، ثم أهرول فارا من نفسي.. إلى نفسي.. وبدون فرار أمسك مؤخرة رأسي لأصرخ.. دون أن أمسك ودون أن أصرخ.. تتداخل العوالم بالنسبة لي دون أن يدري أحد.. و أتساءل : ما بال هذا العالم لا يحزن لحزني؟.. أما أبكاه حالي؟.. ألم ير كيف أنا هائم تتجاذبني المنغصات؟.. ألا يرى هذا كله؟.. ألا يسمع صراخي ..أم لا أعنيه من قريب أو بعيد؟.. فأنا الجزء المنسي.. الجزء الذي يجب أن يستأصل أظن هذا... تذكرت آنذاك أمي عندما تجزع لجزعي، وتبكي لمجرد عارض ألم بي، تحملت المسكينة عني أعباء السنين.. تذكرتها والابتسامة الممزوجة بالحزن التي ودعتني بهما، وكأنها تجتز عضوا من أعضائها وتهبه للصحراء المقفرة لتفترسه السباع والأسود ... ابتسامة دامية أيقظت كل ما بي من مشاعر غاضبة، تمسها الانتكاسة بسرعة البرق.... تهلهلت خطواتي عائدة إلى " المحطة الطرقية "، لأمتطي سفينة العذاب التي ستحملني إلى مصيري المجهول ... عالم ينتظر قدومي دون سابق موعد بيننا،.. عالم أجهل كل مقوماته أجهل المكان.. الزمان.. التاريخ.. و حتى الإنسان، لا أعلم من هذا العالم سوى ما يدور في مخيلتي المنهكة من عذاب مفترض أتوقع حدوثه في تلك الجغرافيا و التاريخ المجهولين ... صرخات تتقاذفها ذاتي الحائرة بين التصور والواقع، بين النظرة والتطبيق، بين الكائن والمفترض، بين الذات الغارقة في وحل الأسئلة وبين الكماشات التي تحمل ذاتي بين الفينة والأخرى إلى لهيب الصراع، بين الذات و الذات.. تثقل كاهلي بحمل كالجبل، وتجعلني أعتصر ثغري لتبدو تجاعيد الشباب ممزوجة بهرم الأيام القادمة " القادم المحتمل " لتشكل تجاعيد سبقت الزمن، وجعلت الشيب يسبق الشباب في صراع السابق بالآتي.. ما أفضع هذه المشاعر وما أبشعها حينما يكتنفها السواد اليائس ... سبح تفكيري في مغريات الحياة التي سأفتقدها بمجرد وصول سفينة الموت إلى المكان " هادم اللذات ".. تذكرت حينها جماعة الأصدقاء و الأهل والأحباب الذين يتبادر إلي أنني لن ألقاهم بعد اليوم .. أسيح عبر المخيلة و الشجن يملأ قارورة رأسي، ويتركني أناجي اللحظات بدمع لا يفتر، لكن فرملة سائق السفينة توقظني من أحلامي الرمادية، فأنظر إلى الظلمة التي تكتسح السفينة، حيث أغلب الركاب- إن لم يكن كلهم- يغطون في النوم العميق، وكأنهم يفترشون الحرير ويغطون بريش النعام.. شخير يعلو من أفواه البعض.. أغبطهم على هذا، فأنا لا أقدر على النوم، أقارن بينا.. فتعاودني من جديد المفزعات الهادمات للذات، لأعتنق من فوري صدر الضباب، الذي لن يفارق ذهني مادمت أمتطي هذه السفينة.. تذكرت عند ذاك سفينة النبي نوح عليه السلام، التي أنقذت البشرية من الزوال وتساءلت لم لا تكون سفينة نوح مثل سفينتي ؟ لماذا أنقذت تلك البشر ليتناسلوا وأكون من أبناء أحد الناجين، و الموت يكتنف صدري.. ولتحملني سفينة الضياع إلى الموت الأبدي.. ظلام اكتسح أجوائي تلته فرملة أيقظت مشاعر وأطفأت أخرى لأنظر إلى ظلام يشح بنور خافت .. الظلمة رفيقة رحلتي؛ أنام وأجد أحلاما مظلمة، لأصحو على ظلمة السفينة.. فتعاودني لحظات الفراق ودموع رقراقة تمحو حصيلة الذكريات.. لأعيش يتيما يتقاذفه الزمن من مكان الى مكان، ويا ليت المكان أعرفه؟؟ تساءلت مختتما سؤالي بتنهيدة عميقة المخرج حالكة الممر ...
بدأ يداهم المكان نور خافت، والطيور في الخارج تغادر أوكارها بتغاريد تحبك مع الطبيعة الصامتة سمفونية الحر الطليق، فهي تستأنف عمل يوم جديد.. همها الوحيد تلبية غرائزها.. تغادر أعشاشها متى شاءت، و تروح متى شاءت.. لكن حالة الموظف تبدو لي غير ذلك، لأنني و الفترة هاته مازلت جديدا على الميدان، وأجهل الكثير.. ولا أعلم سوى التعيين الإجباري الذي أقلني الآن سفينة الشقاء وجعلني أتخبط في مشاكل ذهنية لا تفتر.. ليس حالي كحال الكثير من الكائنات " الحرية " مسألة فيها نظر .. فأنا الآن لوحدي وكل من عاش معي فترة التكوين تغازلهم الوحدة في هذه الأوقات، كل منا يمتطي سفينة ضياعه أو تمزقه لحظات الفراق.. تذكرت الشغب الذي كنا نحدثه بخصوص المنحة الشهرية، والتي كانت بمثابة "محنة" تزيد المحنة تفاقما، و المقاطعات التي كنا نقوم بها ليست كلها من أجل "المحنة" فقط، بل من أجل المقاطعة لا غير في أحيان أخرى متخذين من " المحنة " ذريعة لعملتنا .. أفقت على ابتسامة ارتسمت على شفتي واضحة المعالم، تتغلغلها تقاسيم حزينة، رافقتني ساعات فراق الأهل والأحباب...
أشرقت شمس صباح جديد، أظلمت معه سمحات وجهي الحزين.. حيث التفت من نافذة الحافلة فإذا المباني حمراء تصطف في صمت رهيب، وكأنها تنتظر قدومي لتريق دمي على أعتابها، وتتخذها طلاء تطلى به جدرانها.. إنها نهاية أحلامي على بركان غضب المجتمع، مع أنني لم أقترف ما يجعلني أعاقب بمثل هذا العقاب المميت، و الذي تشنق من خلاله كل الآمال.. وأغدو إلى مصرعي بمدينة "طاطا "، لتبدأ حياة ما بعد الموت.. حيث تعلق الأجساد في صمت رهيب يزلزل الأفئدة و يتخذ من الأجساد المغلولة آلهة هذا الزمان .. الآلهة المعذبة.
انتهى
" وتستمر الحياة باستمرار الرحلة "
الرحلة الثانية
قال في ثقة مبالغ فيها إنك عينت في منطقة " الكاف " وأردف قائلا: إنها منطقة جميلة جدا.. قال هذا و العبارات المشحونة بالإعجاب و المديح تنساب من فمه ذي الشفتين الغليظتين التي يحملهما وجهه الأسمر، وكأنه يبشرني بجنة عاد، تذكرت آنذاك ما قرأته في كتاب "الحنين إلى الأوطان" لما كان من حب العرب للقفار المقفرة، حيث يتصورونها جنة من جنان الدنيا .. تلقيت الخبر بشكل بارد فجميع الأمور صارت عندي سواء .. قصدت على التو مكان حقائبي، التي حملتها حملا يفوق طاقتها الاستيعابية.. حملتها ما أحمل من هموم تكسر الجناح، فجعلتني في هذه اللحظات أرابض بجانب الموت، وأتخذه خليلا يرافقني في رحلة العدم هاته.. وضعت حقائبي على ظهر سفينة أخرى، تقلني إلى مكان تعييني؛ سفينة تلفظ أنفاسها الأخيرة على أعتاب هذا المكان البائس .. أخذت عجلات سيارتنا تطوي الطريق طيا وكأنني بها على نعش الموت، حيث حملته يسرعون بي إلى مثواي الأخير.. كنت أثقل حركة العجلات، لأعيش لحظات النشوة الأخيرة .. الطريق طويل؛ تعلو ضفتيه جبال هرمة.. أصابني الذعر لمجرد مشاهدتها، فبالأحرى العيش بجانبها.. انتابني انزعاج غريب أذكى ما بداخلي من حنق وتركني أنساب وراء أمواج فكري العاتية وأنصهر في حمم بركاني لتتفجر دواخلي بدموع عانقتها وجنتاي الذابلتين .. كل الجبال عارية، مما جعلني أتعرى مما تبقى لدي من أمل، و الصخور المبعثرة في كل مكان بعثرت روحي على أعتاب جبال "باني" هذه الجبال العالية والشديدة الانحدار تتسلق السماء في كبرياء زائف؛ كبرياء كشفت حقيقته من النظرة الأولى .. بدأت السفينة تنعطف بنا يمينا وشمالا، والسائق يصطنع الوجوم الوقور حتى يرغمنا على اجتذابه إلى الكلام، فهو يعلم أننا كلنا أسئلة، وربما يتساءل عن سبب صمتنا الممل.. فشفتاه الغليظتين توحي بفم كله كلام كله مجاملات لبلدته الصغيرة.. بعد صراع صمت طال طويلا قال في لكنة يشوبها نوع من التكلف:"منين نت فلخوت" أجبته والبكاء يغالبني ودونما أن أثير الانتباه: إنني من مدينة فاس. ثم تعمدت السكوت، لأضع حدا لفضوله، ولأعود إلى عالمي الصغير الغامض.. لكنه بدا مصرا على معرفة المزيد فقال: "وقيلا عاد جديد.." ودون أن أجيبه أطرق مكملا .. " راه ديما البدو صعيب.." وأخذ يحدثني عن بعض المعلمين الذين مروا من هنا وكيف كانوا أثناء التحاقهم، وكيف أصبحوا مندمجين في هذا الوسط.. ثم قال:".. بلادنا ولافا والله العظيم.. كلشي تيقولها.. والله العظيم " فأطرق ساكتا دون أن ينبس ببنت شفة حينما رأى تلك الدموع الهاميات وهي تتقاطر على خدي حينذاك كنت لا أسمع سوى همهمات لا أعرف معانيها، ولكن هي أصوات مجرد أصوات تتناقلها الشفاه.. كل واحد من الركاب يقول عني شيئا، أو عن معلم قدم إلى هنا "من زمان أهما تيتعينوا.. بزاف ديال المعلمين دازوا منهنا.. كيدوزوا عامين او ثلاثة أوكينتقلوا" قال أحدهم.. أجابه الآخر" أودي مابقات قرايا.. مشات لقرايا مع فرانسيس.." ...
لم أدري كيف وصلنا، حيث كانت الشمس قد غادرت الأفق، وبدأ الليل يرخي سدوله على الموجودات، إنها الساعة الفاصلة و الحاسمة بيني وبين ذاتي، هنا سأضع كل تصوراتي عن العالم الجديد في المحك، و لهذا فأنا مرتبك أيما ارتباك، ترى ماذا سيقع؟ كيف ستكون حياتي وسط هذه الأشياء الجامدة؟ وكيف سأكون؟ إنها نهاية تجربة حياتية لتبتدئ أخرى.. أخيرا كان الوصول، ترى ماذا سيقع لي من الآن فصاعدا هنا؟ تبتدئ رحلتي الجديدة بين أحضان هذه الجبال..
وتستمر الحياة باستمرار الرحلة
الرحلة الثالثة
عند الوصول وكانت الشمس قد غربت حيث كنت وحيدا فوضعت حقائبي داخل حجرة دراسية فليس عندي مكان أضع فيه أشيائي سوى هذه الحجرة المتآكلة وكالعادة عند جل المعلمين فالطاولة هي السرير الأول الذي تدشن به المسيرة الحياتية في بداية الوظيفة لكي تكون فاتحة أمل بالنسبة للمعلم .. رتبت بعض الطاولات على شكل سرير، ووضعت عليها "بطانية" ونمت. لست أدري كيف حصل ذلك، ولكن هذه هي الحقيقة.. أعتقد أن ذلك حدث نظرا للتعب الإرهاق اللذين رافقاني في هذه الرحلة،..
استفقت بعد مرور عدة ساعات من النوم، وكان الليل قد أطبق على الموجودات، فأنا والليل لدينا قصة طويلة، ملخصها أنني أخاف من الظلمة عندما كنت في المدينة، ترى ماذا سيقع لي وأنا في هذه البيداء المقفرة؟.. لا أرى سوى الظلام الدامس الذي أفزعني، بعدما أحسست باختناق وسط العتمة، وكأن جدران الحجرة سيطبقان علي خرجت مهرولا من مكاني أبحث .. عماذا سأبحث في مثل هذه الظروف ؟ ربما أبحث عن نفسي التائهة وسط العتمة، أو عن شيء تاه مني .. أو عن المنقذ الذي سيخرجني من هذا المأزق الذي وضعت فيه دون علم مني بذلك؛ وجودي في الظلمة ووحيدا أصارع اللحظات .. لكني عندما بلغت إلى مدخل الحجرة سمعت أصواتا، فخرجت حافيا أتتبع مصدرها، لكنني فوجئت بأن ليست هناك أصوات في الخارج، فازداد رعبي وانزعاجي .. لماذا يا أمي أرسلتني إلى هنا، إلى هذا الجحيم .. وأخيرا انتهى إلى مسمعي أصوات أناس يتحدثون، دنوت منهم.. لأخبرهم أنني "المعلم الجديد" والفزع يرافقني؛ أولا لأنني خرجت حافي القدمين، وثانيا من هؤلاء الأشخاص الذين أدنو منهم،.. لا يهم فكل الأمر سواء.. من حسن حظي سمعت معلمين بين المجتمعين، كم كانت فرحتي عظيمة عندما علمت هذا، فلي أمثال هنا ، نعم هنا سننام سويا.. ونعيش سويا.. الله.. كم كانت فرحتي عظيمة.. شكرا لك يا ربي.. فهذه منة.. أنقذتني من مصير هذه الليلة المجنونة [IMG]http://www.************/vb/images/icons/icon32.gif[/IMG]
وتستمر الحياة باستمرار الرحلة.......[IMG]http://www.************/vb/images/icons/new1.gif[/IMG]
كريم karim bahirra[IMG]http://www.************/vb/images/icons/icon40.gif[/IMG]