عبد الحق الحاج خليفة بعد اللقاء الأخير الذي عقد من طرف المجلس الأعلى للتربية والتكوين، عبر رئيس المجلس عن تفاؤله بخصوص مؤشرات الثقة التي يحظى بها المجلس من طرف المعنيين بالحقل التربوي، لكن التساؤلات التي تبقى معلقة وتحتاج إلى أجوبة واضحة من أجل إزاحة ما يمكن أن يشوب هذه الثقة من شكوك هي: ما مدى قدرة المجلس على الدفع في اتجاه تفعيل تقاريره و خلاصاته واستراتيجيته التي قد تستغرق منه الوقت والجهد اللذان لايختلفان عما بذل من طرف اللجنة المكلفة بإصلاح منظومة التربية والتكوين في صياغة وثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟ وما الفرق بين ما يبذل اليوم من جهد وما بذل في صياغة تقرير المجلس الأعلى للتعليم في صيغته السابقة أي تقرير 2008 ، وما الذي حال دون أجرأة ما بذل في صياغة التقرير المفصل للبرنامج الاستعجالي 2009/2012 من جهود ؟. وكلها تقارير لا يمكن إنكارما أسفرت عنه من نتائج تمت صياغتها عبر وثائق تفصيلية تحدد المرامي والأهداف وتبين كيفيات الأجرأة والتفعيل بكل جزئياتها. بمعنى إن حجم الثقة التي يحظى بها المجلس اليوم لا يختلف عما منح لكل المحاولات الإصلاحية السابقة ، وما علق عليها من آمال بالنظر لتماثل الأسباب والعوامل التي كانت وراء بروزها وهي الإعلان الرسمي عن وصول المنظومة التربوية إلى الباب المسدود. بل أكثر من ذلك التزامن الذي حصل بخصوص صياغة الميثاق الوطني للتربية والتكوين مع ولادة التناوب الأول، إذ كلاهما برز نتيجة الحاجة الاستعجالية للإنقاذ من السكتة القلبية. وهو ما شكل عاملا مساعدا آنذاك بشكل كبير على إبرام عقد الثقة الذي يروم فتح صفحة جديدة للعمل على إحداث التغيير المطلوب كخيار متوافق عليه بالنظر للمناخ الإيجابي الذي كان سائدا في بداية هذه التجربة التي راهن عليها الجميع من حيث إمكانية إحداث التغيير المنشود، ليس بخصوص المسألة التعليمية وحدها وإنما على مستوى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وهو ما شكل دعامة قوية آنذاك بخصوص استرجاع الثقة بالنظر لصعوبة عزل المنظومة التربوية عن مجتمعها وتعذر الحديث عن إصلاح المدرسة في غياب إحدات التغييرالمننشود في المجتمع، هكذا وضمن أجواء الثقة هذه تم إعداد وثيقة من طرف اللجنة الوطنية المكلفة بإصلاح منظومة التربية والتكوين وتم الحرص من طرفها على مقاربة الاختلالات بالاعتماد على بعض المعينات النظرية ممثلة في تواجد بعض الخبراء في عضوية اللجنة، و اعتمادا على تجارب عملية تلك التي وقف عليها أعضاء اللجنة الوطنية خلال زياراتهم الميدانية للعديد من البلدان وفي كل القارات. كل ذلك أثمر وثيقة اعتبرت آنذاك مخرجا ملائما لما يتخبط فيه النظام التربوي، وتم تصريفها في صيغة عناوين كبرى غطت جميع المشكلات والقضايا التي تعانيها المنظومة التربوية ، وثيقة تم تقسيمها إلى قسمين ، القسم الأول يتضمن المبادئ الأساسية وهي المرتكزات الثابتة- الغايات الكبرى-حقوق وواجبات الأفراد والجماعات –التعبئة الوطنية لتجديد المدرسة. أما القسم الثاني فيتعلق بمجالات التجديد ودعامات التغيير ويشمل ستة مجالات : 1) - نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي 2) - التنظيم البداغوجي 3 ) - الرفع من جودة التربية والتكوين 4)-الموارد البشرية 5) - التسيير والتدبير 6) - الشراكة والتمويل. أنظر وثيقة (الميثاق الوطني للتربية والتكوين )وكل مجال من هذه المجالات يتضمن كما هائلا من المبادئ والبنود التي تهم سائر القضايا المرتبطة بمنظومة التربية والتكوين على كل المستويات والتي تم الاعتقاد أنها ستكون كافية لوضع قطار الإصلاح التربوي على سكته الملائمة ليواصل سيره بنجاح، وتم الرهان على كل ذلك من خلال شعار "العشرية الوطنية للتربية والتعليم" وتخللت هذه العشرية العديد من الاستشارات والندوات واللقاءات ورافقتها العديد من الإجراءات التي اعتُقد أنها قادرة على أجرأة وتفعيل مقتضيات الإصلاح. إلا أن الذي حدث وقبل انتهاء العشرية بثلاث سنوات فوجئ الجميع وبناء على تشخيص مرحلي أن الواقع التعليمي أبعد ما يكون عن الأهداف المسطرة من طرف الميثاق الوطني خلال ما أطلق عليه "العشرية الوطنية للتربية والتكوين". إذ قبيل انتهاء هذه العشرية سيعلن التقرير الأخير للمجلس الأعلى السابق عن هذا الفشل من خلال الحقائق التي وقف عليها وبالأرقام في سياق ما قام به من تشخيص ، إذ كان لزاما عليه وبالنظر للمسؤولية الأخلاقية التي يضطلع بها أن يعلن صراحة أن أم الاختلالات تكمن في ضعف التمويل. إذ لا ينفق على المتعلم عندنا إلا نصف ما ينفق عليه في بلدان مماثلة، الشيء الذي دفع صناع القرار التربوي إلى محاولة تدارك ما يمكن تداركه في حيز زمني أشبه ما يكون بالوقت بدل الضائع لتخصيص ميزانية مالية كبيرة لمحاولة ردم الخصاص الفظيع الذي وقف عليه التقرير المذكور ضمن ما سمي بالبرنامج الاستعجالي، وقد تم الحرص ضمن هذا البرنامج على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال تصحيح مسار القطار وشحنه بالطاقة اللازمة وبذلت جهود كبيرة لإعداد مخطط قيل آنذاك أنه واقعي وعملي، ووضعت من أجل تنفيذه خارطة طريق عملية مدعمة بالأرقام والتواريخ والالتزامات وقد غطى بدوره جميع الإشكالات والتزم بالتصدي للاختلالات ومواطن الضعف التي تحتاج أكثر من غيرها لتدخل استعجالي تحت شعار "جميعا من أجل مدرسة النجاح" تحت عناوين كبرى: اختصرت في أربعة مجالات: المجال 1) - التحقيق الفعلي لإلزامية التعليم إلى غاية 15 سنة. المجال2) - حفز روح المبادرة والتميز في المؤسسة الثانوية التأهيلية والجامعة. المجال 3 )- مواجهة الإشكالات الأفقية للمنظومة التربوية. المجال 4) - توفير وسائل النجاح. وتم وضع جملة من العناوين الفرعية ضمن كل مجال من هذه المجالات بشكل مفصل ودقيق بدءا من التعليم الأولي ومرورا بتأهيل المؤسسات التعليمية وانتهاء بتحسين جودة الحياة المدرسية ودعم الصحة المدرسية وتأهيل معايير النظافة والأمن بالمؤسسات التعليمية (انظر البرنامج مفصلا على موقع الوزارة). إن ما يبرر هذه العودة إلى الماضي القريب واستحضار مآل هتين التجربتين المتعثرتين ليس هو التيئيس أو إطفاء جذوة الأمل في إمكانية التدخل المطلوب لتصحيح ما هو ممكن من الاختلالات، وإنما الغرض من ذلك هو استحضار ما يمكن أن يشكل عوائق واقعية أمام عقد الثقة الذي يشكل الدعامة المركزية في الإصلاح المنشود، وبالتالي الحرص على عدم السقوط في إعادة إنتاج نفس الحلقة المفرغة بسبب هذا الشبه التماثل على مستوى اللحظتين التاريخيتين وسياقهما العام الذي ظهرتا فيه أي ما اصطلح عليه بتجربة التناوب الأول بالنسبة لميلاد الميثاق الوطني، وتجربة التناوب الثاني بالنسبة لما يتم الإعداد له اليوم بإشراف المجلس الأعلى للتربية والتكوين، وكذا التشابه الكبير بخصوص الفرق الشاسع على مستوى الصلاحيات الممنوحة للجن أو المجالس أو الهيئات التي يتم تعيينها وتستغرق وقتا طويلا في الاستشارة والتشخيص والإقتراح وتقف عند هذه الحدود، وبين جهاز تنفيذي غير قادر على مواجهة المعضلات والمشكلات التربوية ،ولا يضعها ضمن أولوياته التي ينبغي الانشغال بها أو التفكير في إبداع الحلول التي تتطلبها. فتتعمق بذلك الهوة بين التقارير التي يهدر من أجلها الكثير من الوقت والجهد والمال من أجل وضع الأصبع على مكمن الداء، وبين أداء حكومي تتحكم فيه إكراهات مالية تحول دون استيعابه أو تمثله خطاب أولوية الاستثمار في الحقل التربوي، وتستحوذ على منطق التفكير لديه هواجس تقنية حسابية مادية لا تسمح بإمكانية التواصل بلغة موحدة بين من يشخص ويُعدّ التقارير، وبين من يضعون الميزانيات ويحددون سقف الإنفاق لهذا القطاع أو ذاك، إذ كيف يجوز مطالبة من يشتكي من حجم الإنفاق على الحقل التربوي أن يضاعف فاتورة هذا الإنفاق . لهذه الأسباب إذن فما هو مطلوب من المجلس الأعلى للتربية والتكوين هو أن يقدم نموذجا مغايرا إن على مستوى التشخيص أو على مستوى البدائل الممكنة، لأن إبرام عقد الثقة بين المجلس والممارسين لا يستقيم دون خطاب الصدق والصراحة على مستوى تشخيص المعضلات من جهة وعلى مستوى تحديد العوائق ومكامن الخلل التي حالت دون جني ثمار المحاولات الإصلاحية السابقة وفي إطار مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. بمعنى لابد من الجواب عن السؤالين: لماذا تعثر الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ولماذا فشل البرنامج الاستعجالي؟. أما على مستوى البدائل فليس المطلوب من المجلس تقديم وصفة جاهزة لإصلاح الاختلالات العميقة التي يعانيها القطاع كما حصل بخصوص المحاولات السابقة ، وإنما المطلوب منه هو التركيز على الممكن من التدخلات الاستعجالية التي لا تحتاج إلى أية كلفة مادية في المدى المنظور، وهو ما يمكن أن يشكل معيارا صالحا لصدقيته من حيث قدرته على إحداث ثقب في الجدار السميك من فقدان الثقة التي تكرست بفعل توالي الإحباطات المتكررة مع تبخر الأمال أثناء كل محاولة للإصلاح. إن الأنظار مشدودة اليوم ليس إلى ما سيُدبّجه المجلس المذكور من تقارير لن تكون أكثر جرأة من التقارير السابقة ، وإنما إلى ما سيقترحه من إجراءات عملية كأجوبة استعجالية على الاختلالات العديدة التي لا تحتاج إلى أية كلفة مادية، والتي تراكمت جراء الخصاص الفظيع ليس فقط على مستوى البنيات والتجهيزات، وإنما على مستوى أعطاب الحكامة ممثلة في الارتجال والعشوائية وسوء التدبير.