حاصرت عرفات بعد رفضه التنازل عن القدس وعزلت جارودي لرأيه حول "المحرقة"
هل تصفي إسرائيل أردوغان سياسيا؟
افتكار البنداري
اسلام اون لاين
أردوغان مخاطبا الجمهور الذي استقبله أمس بعد عودته من دافوساستبعد خبيران في الشأن التركي أن تنجح إسرائيل في تصفية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سياسيا على خلفية مواقفه الرافضة بشدة للعدوان على غزة، وآخرها انسحابه من جلسة جمعته برئيس إسرائيل شيمون بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي، مستندين في ذلك إلى "الشعبية الجارفة" التي يتمتع بها أردوغان، وإلى "انكسار" الجبروت الإعلامي والسياسي للحركة الصهيونية العالمية بعد "الانتصارات" المتوالية للمقاومة في لبنان وفلسطين، على حد قولهم. وثارت توقعات بأن تسعى إسرائيل ومن ورائها الصهيونية العالمية لتصفية أردوغان سياسيا - أي إزاحته من الحكم أو إضعافه في موقعه - تنفيذا لعادتها في تشويه أي نموذج يعلو صوته بنقدها أو ينقل صورتها الحقيقية أمام العالم، كما حدث سابقا مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والمفكر الفرنسي روجيه جارودي.
وفي تصريحات لـ"إسلام أون لاين" الجمعة، رأى المحلل السياسي التركي إبراهيم أقباب أن إشاعة بعض الكتاب مثل هذه الفكرة (تصفية أردوغان) هدفها "إرهاب الناس، وتخويف الآخرين من تكرار مواقف أردوغان، حتى تغلق الطريق الذي انفتح لفضح جرائمها وعنصريتها في غزة وغيرها".
وشدد أقباب في اتصال هاتفي مع "إسلام أون لاين" على أن هذا المخطط الإسرائيلي الصهيوني "لن ينجح"، مستدلا على ذلك بـ"التأييد الشعبي الجارف" لأردوغان من الجماهير والمؤسسات الرسمية، كما أشار إلى أن أردوغان في مواقفه ضد العدوان الإسرائيلي على غزة "لم يكن يعبر عن موقف فردي، بل عن اتجاه عام يسري في أوصال الدولة التركية ككل، ويمثل فيها موقف دولة تركيا".
وبالنسبة للموقف الإسرائيلي من أردوغان قال أقباب: إن "إسرائيل تعرف أن تركيا سائرة في هذا الاتجاه وفق إستراتيجية محددة لا تتعلق بمن هو رئيس الوزراء، وهو ما لفت إليه أردوغان حين قال مساء الخميس إن الجميع يعرف أن تركيا لها وجود قوي بالمنطقة، وقادرة على ضمان الحفاظ على عملية السلام، وعلى الجميع أن يضعوا هذا في حساباتهم"، في إشارة إلى إسرائيل.
ولم يستبعد أقباب استهداف إسرائيل لأردوغان جسديا، قائلا إنه تم استهدافه بالفعل 5 أو 6 مرات بمحاولات اغتيال خلال 3 سنوات، وهناك محاولات أخرى إعلامية للانتقاص من شخصيته أمام الرأي العام، و"لكن كل المحاولات باءت بالفشل لأنه يمثل النفسية التركية التي كان يتوق لها الشعب وينتظرها منذ سقوط الدولة العثمانية".
عرفات وجارودي
وبحسب محللين فقد نجحت إسرائيل فيما سبق في تصفية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات سياسيا عندما فرضت عليه الحصار في رام الله إثر رفضه التنازل عن القدس الشرقية في عام 2000، وانتهى الأمر بتسميمه، وفق أقوال فلسطينية.
وكذلك لاحق اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل في فرنسا الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي روجيه جاردوي ردا على إنكاره رقم الـ6 ملايين يهودي الذي تدعي إسرائيل أنهم قضوا نحبهم في محارق النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وانتهى الأمر إلى إصدار محكمة فرنسية عام 1998 حكما بإدانة جارودي بتهمة التشكيك في محرقة اليهود، وسجنه 9 شهور مع إيقاف التنفيذ وغرامة مالية قدرها 100 فرنك فرنسي، وهو ما دعا وسائل الإعلام الفرنسية لتجنبه في السنوات التالية خشية تعرضها لاتهامات بمعاداة السامية.
"تضخيم العدو"
واتفق الدكتور إبراهيم بيومي غانم، رئيس قسم الرأي العام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر والخبير في الشأن التركي، مع أقباب في أن إسرائيل لن تنجح في تصفية أردوغان سياسيا، مبررا ذلك بأن ما عرفه العالم من "جبروت القوى الصهيونية الذي ينال كل من يقف في طريق تحقيق أهدافها، أصبح فكرة من الماضي، ولم يعد لها حضور في عالم اليوم بعد أن انكشف ضعف إسرائيل في حروبها الأخيرة بالأراضي المحتلة".
وفي اتصال هاتفي مع "إسلام أون لاين" أرجع غانم تفاؤله بنجاة أردوغان من أي استهداف سياسي إسرائيلي إلى شخصيته التي تجمع بين العناد والمرونة في آن واحد، مستشهدا بما قاله أردوغان لمنتقديه عقب انسحابه من مؤتمر دافوس مساء الخميس حيث قال: "أنا لدي رأس مرن، ولكني لست خروفا خاضعا".
فأردوغان "شخصية عالية القامة وسط أقزام، وقادرة على فرض آرائها من موقع القوة"، بحسب تعبير غانم.
وحذر المحلل السياسي من "الانسياق" وراء الترويج لما تشيعه إسرائيل وأذرعها في المنطقة من "ترويع وإرهاب" لمنتقديها، وذلك عبر تضخيم التهديدات التي يتعرضون لها، مشددا على أن هذا "الانسياق" سيكون تهويلا من شأن العدو الذي يمر بـ"لحظة ضعف" بعد أن كسرت حرب لبنان في عام 2006 وحرب غزة في 2009 احتكاره للإعلام الغربي، وبعد أن خسر المعركة الإعلامية والأخلاقية، بدليل المظاهرات الضخمة التي عمت دول العالم في الأسابيع الأخيرة تنديدا بمجازره في غزة.
أما عن الأصوات المعارضة الداخلية التي رفضت بشدة انتقادات أردوغان لإسرائيل، واتهمته بأنه يتحدث بلسان "التطرف والأصولية" فقد وصفها المحلل السياسي إبراهيم أقباب بأن كثيرا منها "معروف عن أصحابها أنهم مرتزقة إسرائيل في تركيا، وهو ما أكد عليه أردوغان لدى عودته لإستانبول بقوله: إن من انتقدوا موقفي في دافوس هم محامون لجهات أخرى، وليسوا أبناء هذا البلد".
منذ عبد الحميد
وفي تقييمه لموقف أردوغان خلال وبعد الحرب الإسرائيلية على غزة قال أقباب إن تصريحات أردوغان "ليست رد فعل انفعالي مفاجئ أو وقتي.. فتركيا منذ أكثر من عقدين، وتحديدا منذ عهد تجوت أوزال رئيس وزراء تركيا الأسبق الذي كان إسلامي التوجه، خططت لنفسها الابتعاد عن التبعية للخارج، واستهدفت العودة مجددا صوتا قويا في العالم، وهذا بدا في مواقف أخرى سابقة رافضة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط".
واعتبر غانم أن ما حدث بدافوس هو "أول حدث من نوعه في تركيا منذ مائة عام، وتحديدا منذ عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي رفض التخلي عن أرض فلسطين لليهود.. هناك بهجة تعم الشعب التركي وتأييد جارف وشامل.. أما المنتقدون فهم أصوات شاذة.. لا أحد يبالي بها".
وكان السلطان عبد الحميد الثاني قد رفض بشدة عام 1901 طلب مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل تخصيص أرض فلسطين للم الشتات اليهودي في العالم مقابل إغراءات مالية لتخفيف أزمة الديون التي كانت تعاني منها سلطنته، وقال السلطان العثماني حينها: قطعوا جسدي إربا إربا ولا أقطع من أرض فلسطين لليهود، مبررا ذلك بأن الإمبراطورية العثمانية "ليست ملكي بل هي ملك المسلمين جمعيا الذين حصلوا عليها بالدماء".
"إشاعة"
وفي سياق آخر فسر مراقبون مواقف أردوغان بأنها لم تكن سوى "انفعالات فردية" لم يتردد في إظهارها دون تحسب للعواقب وسط أنباء عن اعتزامه الانسحاب من الساحة السياسية التركية عقب إجراء الانتخابات المحلية مارس القادم.
ونفى أقباب وجود أي مؤشرات داخل تركيا حول اعتزام أردوغان القيام بهذه الخطوة، مستدلا على ذلك بـ"شعبية أردوغان التي تزداد يوما بعد يوم.. وهذا الذي يتردد هو مجرد إشاعة لإضعاف دوافع موقف أردوغان وتشويهه وإظهاره بمظهر من لا يحسب حسابا لمصلحة شعبه"، كما وصفها بأنها "مجرد تهديدات على شكل مقالات صحفية يكتبها مؤيدون للصهيونية".
وبدوره، قال د. غانم إن أردوغان "لا يفكر بهذه الطريقة، خاصة أن كل المؤشرات ونتائج استطلاعات الرأي تدل على أن حزبه (العدالة والتنمية) يزداد شعبية، وسيكسب في الانتخابات"، مستدلا على ذلك بالآلاف الذين تدافعوا إلى مطار أتاتورك في إستانبول فجرا رغم الأجواء الباردة لاستقبال أردوغان لدى عودته من دافوس.
وكانت حشود جارفة توافدت على المطار، وهي تردد هتافات وصفت فيها أردوغان بأنه "زعيم العالم" والقائد المنتصر، وهو الاستقبال الذي قال غانم إن تركيا "لم تشهد له مثيلا منذ عهد السلطان محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية (الاسم القديم لتركيا) في القرن الخامس عشر الميلادي".
"نقطة فاصلة"
وفي نظرة استشرافية لتبعات انسحاب أردوغان من دافوس، اعتبر غانم أن هذا الموقف "نقطة تحول فاصلة" في تاريخ العلاقات الدولية، وأوضح أن ما حدث سينتج عنه هدم الصورة الذهنية لإسرائيل التي "لا تُقهر" سياسيا بعد أن رفض أردوغان قبول الإهانة، بل كال له بالصاع صاعين.
كما رأى أن "موقف أردوغان ينبئ بأن هناك عالما جديدا يتشكل على أساس وجود وجهات نظر متعددة، تسهم فيه قوى إقليمية كبرى صاعدة مثل تركيا وفنزويلا والهند، تجتمع على موقف موحد في رفض الغطرسة الغربية والصهيونية".
وأوضح أن "هذه الملامح التي تتشكل تفرض على كل القوى والأنظمة العربية أن تعيد حساباتها من جديد برؤية إستراتيجية مختلفة عما درجت عليه سابقا، لأنه بالفعل قد ولى عصر الانتصارات العسكرية والسياسية لإسرائيل".
وتابع غانم قائلا إن ما لحق بإسرائيل في دافوس "هزيمة سياسية لإسرائيل" لا تقل عما لقيته من "هزيمة عسكرية أمام المقاومة اللبنانية عام 2006 والمقاومة الفلسطينية في غزة 2009".
واختتم غانم وجهة نظره بالقول: "لقد تحولت القضية من مجرد انتقاد لإسرائيل كان سيوجهه أردوغان إلى مسألة مقاطعة رئيس وزراء دولة كبيرة ومنعه من إبداء رأيه لصالح طرف واحد"، مشيرا إلى مقاطعة منسق الجلسة الكاتب الأمريكي اليهودي ديفيد إيجناتيوس بصحيفة "واشنطن بوست" لأردوغان.
وأضاف بالقول: "إنها لحظة قصيرة جدا في تاريخ العالم، ولكنها عميقة جدا في تأثيرها"، بتعبير غانم.