الأستاذ أحمد طاهيري
إن من يتأمل شأن الأمازيغية ،بدءا بتصنيفها "كلغةّ"،والدعوة المتلاحقة إلى دسترتها،مرورا بتنزيل ثـقل تعليمها وتعلمها كمادة تنضاف إلى أعباء البرامج التربوية،على المدرسين والمتعلمين على حد سواء،يستوي في ذلك الناطق
بها أو بلهجة ما يقاربها ،أويندرج في إطارها،ومن لا ينطق بها ولا يدري لها فقها ولا طريقا حتى إلى لوك أحرفها بين شدقيه،وصولا إلى أحرفها ورموزها التي تكتب بها،وكذا طريقة كتابتها،سوف يرى ما يلف هذا الملف من صعوبات،قبل أن تصبح الاستجابة طوع بنان رغبتها ورغبة ذويها في تحقق ما يراد تحققه من هذا الملف. وهنا،سوف أقف في ذيل هذه الرباعية من أجل أن أثير على أرضيتها بعض التساؤل،علني أكشف عن بعض القضايا ذات الأولوية في ملف الاهتمام باللهجة أو اللغة الأمازيغية،رغم أن أحد هذين الاصطلاحين،يغيظ من يغيظ من المتحمسين للأمازيغية "كقضية وكلغة"،خاصة أن من ينطق بها ويعبر بها أو يناقش قضايا البلد أو الدين أو الإنسان عموما،سواء عبر منابرالإعلام أو الملتقيات،فإن كلامه لا يعدو أن يكون مزيجا من العربية العامية أو الفصحى، ومن الأمازيغية،وما أكثر ما تطغى فيها الأولى على الثانية،الشيء الذي يشهد بشكل سافر وصارخ على الخصاص في القاموس الأمازيغي المتداول،وبهذا الصدد أعلنه تحديا لأي كان، يستطيع التحدث بها محضة عن أي شيء دون الخلط بينها وبين غيرها من اللهجات أو اللغات،فأية لغة نطالب بترسيمها وإثقال كاهل المتعلمين بثقلها وعبئها وهي شاهدة على خصاصها إلى ما يغنيها لدى أصحابها أولا، ثم لدى من يرغب في الإقبال على تعلمها ثانيا، لأجل التعبير بها شفويا أو كتابيا. إن الحشود التى تحمل رسالة النضال من أجل إثبات هوية الأمازيغية مطالبون بأن يسلكوا مع هذا النضال أولى الخطوات وأول الأدراج،وذلك بالعكوف على جمعها من مصادرها ووثائقها التاريخية التي تجرى بها ألسنتها،ثم بعدها يصنفون مفرداتها ،ويميزون فيها بين ما هو ريفي وأمازيغي وسوسي،ثم يؤلفون في كل لهجة قاموسا،ثم عن أية "لغة" يتحدثون،وهي أكثر من لسان،وكل واحد منها يشهد بالخلاف مع الآخر،وهذه حقيقة مرة ربما تجاهلها حماة الأمازيغية ومناضلوها،أو يريدون إخفاءها،وكأني بهم يستبقون دعوتهم إلى دسترتها وترسيمها نافين عن الوجود والحسبان ما تعج به من اختلاف،إلى درجة أن كثيرا من الأحرف في الأمازيغية التي يتحدث بها أهل الحسيمة وأهل خنيفرة ومن والاهم على سبيل المشابهة والمقاربة ،غير موجودة في لهجة "تاشلحيت" مثلا...ثم إن من أراد أن يماثل "اللغةّ الأمازيغية" باللغة العربية من حيث كونها ألسنة متعددة كما تشهد على ذلك الجزيرة العربية، تبعا لاتجاهاتها الأربع،فإن البون بين هذه وتلك شاسع،ولم يثبت في هذه الأخيرة ما يشهد بالخلاف الذي حصل مثله في اللهجات غير العربية لدى ساكنة المغرب. أما على مستوى الرمز،أقول:إذا كانت لغات الأجناس البشرية قد تبنت رمزا خاصا بها،وسلكت في كتابته مسلكا ينطلق إما من يمين الصفحة كما عند العرب،أو من اليسار كما عند العجم، ففيمَن مِن هؤلاء سنصنف الأمازيغ المتحدثين بالأمازيغية،وهم يكتبونها برمزها الذي لا يراد لكتابتها غيره،ويتجهون في كتابة هذا الرمز بدءا من الشمال إلى اليمين؟وهم يَبدون في كل مناحي حياتهم مخضرمين،تنعكس عليهم صبغة هؤلاء وأولئك.إن النظر إلى ما يُدعى "تيفيناغ"،يثير تساؤلا لدى الكثيرين عن دلالة اللفظة ،وأوليتها في حضارة الكتابة والتدوين،ثم إلى شكل الرمز، هذا الذي يعدم الرونق والجمالية، بل يدل على بدائية أشبه ما تكون بالكتابات المتجدرة في التاريخ،والتي هي دليل قاطع على ما قد شهده الدهر من أوليات غابرة ،كما هو الشأن في الرسومات التي ترسم على صخور الجبال والكهوف، التي لا تفتأ تعكس من الزمن ما قد ولى.إن رمز الأمازيغية لا يغري الغيور على الأمازيغة،بلـْه َ الذي يتكلف كتابته وفكــّه ،والتعبير به في أدب القول وفنه من شعر، أونثر،أو رواية،أو غير ذلك.فإذا كنا نرى الأمازيغي- ذكرا أو أنثى- يتأنق في اختيار اللباس العصري،ويهتم بتسريحة شعره وفق ما يهوى من موضة الحلاقة،ويقتني الجريدة كل صباح،ويجني من ثمار ما تجود به وسائل الإعلام والثقافة...فهذا يدل على تحرره فكريا ونفسيا،فلم لا يتحرر من عقدة الحرف أو الرمز الذي ليست له أية جاذبية،خاصة أنه يُعتبر هو نفسه من عوائق السير بالأمازيغية إلى ما يراد لها من القـُدم. إن الكثيرمن كبار الفنانين ،وفحول من يُسمّوْن (الروايس)، ممن يتغنون بالنظم الأمازيغي(وأقصد تاشلحيت)،وعلى رأسهم الرايس المرحوم محمد الدمسيري،يكتبون أشعارهم باللغة العربية،ثم يحفظونها قبل أن يتغنوها وهم يذيعونها في الناس،كما أن الكثير من الشعراء الأمازيغ السوسيين ،وعلى رأسهم الشاعر المرموق محمد مستاوي،هم بدورهم يكتبون أشعارهم باللغة العربية.فلماذا لم يدونوها برمز "تيفيناغ" ثم يقولون:ليقرأ من قدر،ولْيُحرم من لا يقدر،أم أن "تيفيناغ"،رمز لم يظهر له أثر إلا في السنوات القليلة الماضية؟أم أنهم يعلمون أن لا أحد قارئ لما يكتبون بذلك الرمزإلا قليلا؟أم ينتظرون حتى يأتي عهد يصير فيه الناس قادرين على فك رمز "تيفناغ"؟ ثم بعدها يسلك الكتاب والناظمون والقراء هذا المسلك؟إننى لا أرى إلا أن الأمازيغية والريفية والسوسية شهدت عهدا ليس بالقليل من النظم والتأليف المقول وليس المكتوب،فلذلك فيحسن بها أن تبقى قالبا لهذا الغرض،أما من شاء أن يدونها ويجعل منها مادة للنظم بها أو التأليف، فليكتبها باللسان العربي،كما هو معهود إلى عهد ليس ببعيد،وهنا سأعيد القول بشأن الحذر من النفور من الأمازيغية وآدابها كلما كتبت بحرف"تيفيناغ". إن كثيرا من شعوب العالم،أمم لها استقلالها بكيانها ولغتها وعاداتها وسمتها وما تتميز به عن غيرها،لذلك فهي تنمو مع نمو هذا الاستقلال المتنوع،وتدافع عنه،وتتشبت به خلفا عن سلف،في حين أن الذين يتحدثون بالأمازيغية ومكوناتها هم شعب يدين بدين الإسلام،ولغة عقيدته وإدارته عربية خالصة، ودستوره مبني على هذه المرجعيات الثابتة،لذا فإن من البدعة جعل ضرة لهذه اللغة،فلم لا تصير قالبا يستوعب الإنتاج الأدبي للعربية والأمازيغية كتابة على حد سواء؟إن من يسمون بشعب"المايا" مثلا ،وكثيرا من شعوب القارة السمراء،يعلمون درجة تحضر العالم في حاضرهم،وشمس التمدن ساطعة على رؤوسهم، ورغم ذلك ،فهم متوغلون في معتقداتهم وأنشطتهم وعاداتهم،ويتبنون للغتهم رمزا يتواصلون به فيما بينهم،ويمارسون بها أنشطة خاصة بهم قولا وكتابة،ويعتقدون ما يعتقدون،ويحلقون رؤوس إناثهم،ويمسخون فطرة الخلق في شفاههم،ويتخذون لهم مساكن مما ذل وهان من أعوادالشجروورقه، كل ذلك لأن لهم هذه الاستقلالية كشعب من الشعوب،فهل سوف نـُجري نفس المعادلة على الأمازيغ،وهم جنبا إلى جنب مع إخوانهم ممن يتحدثون غير لهجتهم،وهم جميعا يتعبدون بلسان مشترك،ويكتبون العقود والمواثيق بحرف اللغة العربية ما دامت لغة الإدارة وغيرها،ففيم ستـُجدي اللهجة الأمازيغية ورمزيتها هنا،هل سوف نقرأ كتاب الله تعالى ،ونصلي وندعو ونحج ،بهذه اللهجة لما نتعلمها ونكتب برمزها...؟ هذا سؤال عريض لن يتكفل زعماء هذه الدعوة بالإجابة عنه في الظروف الراهنة،وحتى على مدى العهد المتوسط مما يلحق من الزمان... أما الشق الثاني من كتابة الأمازيغية، فيتعلق بكون "تيفتاغ" لغة تكتب من الشمال إلى اليمين،تماما كما تكتب اللغات الأجنبية،التي تدل على ما تدل عليه من عقيدة أهلها،وحضارتهم،وهويتهم،واستقلالهم،فهل هذا يعني عند الأمازيغ،وفي رمزهم ذلك ،وفي منطلق كتابة لغتهم تلك، شيئا من هذا؟أليس الأمازيغ في المغرب وهم على تعدد لهجاتهم،كمثل عرب المغرب وهم على تعدد لهجاتهم؟ فإذا كان الأمازيغ شقا من ساكنة المغرب،أصحاب الريفية والأمازيغية والسوسية،فإن الشق الثاني منها هم العرب المغاربة، أصحاب العبدية والدكالية والشمالية والجنوبية والهوارية والجرارية وغيرها،وكلاهما يندرجان في إطار المغرب العربي،ليس تعصبا للعرب،كما لا يُرضي بعض الأمازيغ،ولكنْ نسبة إلى اللغة الرسمية للعقيدة والدستور والإدارة والتواصل المشترك،وهما كلاهما شعب واحد لا استقلالية لبعضهما عن الآخر،ولا حبذا في الأفق دعوة إلى هذا الانفصام. إن من يمتطي ظهر النضال من أجل الأمازيغية لغاية تـُضمر ما لا تـُظـهر، من دعوة إلى الانقسام أو التفرقة، يتنافى كل التنافي مع الدعوة السماوية إلى الائتلاف والاعتصام،ولن يكون الذين يتحدثون بالأمازيغية أو الريفية أو السوسية في يوم من الأيام على قلب رجل واحد ،من أجل أن يقيموا صرح هذه اللهجة لتصير لغة لشعب يرغب في الانسلاخ والاستقلالية بما تستقل به الشعوب وتناضل من أجله،على حساب ما يجب أن يجعل المغاربة قاطبة بدون استثناء في اللسان على قلب رجل واحد ...ولي ملاحظة قبل الختام،تتعلق بكون الأمازيغية – مثلها مثل أية لغة أخرى- مرتبطة ارتباطا وثيقا بدرجة تحضر أهلها،وأقصد بذلك أنه كلما كانت مظاهر هذا التحضر عند الإنسان متوفرة،سواء على شكل أدوات أو منتجات أو وسائل العمل والعيش بما فيها من ضروريات وكماليات،كانت اللغة أغنى وأثرى،والعكس بالعكس،ولا أظن إلا أن هذا العامل هو أحد أسباب الخصاص الذي كشف عنه مطلعُ هذا المقال ،لمّا وصم الأمازيغية بالافتقار إلى قاموس تسيل به ألسنة المتحدثين بها دون تلعثم أم تعثر أو تكلف أو اقتراض لكثير من الألفاظ من جارات الأمازيغية،ولقد شهد أحد برامج الإذاعة والتلفزة الوطنية حول( نظام المقايسة)، ما يشهد على ما أنا ذاهب إليه،وأنا أنصت إلى المتحاورين في البرنامج ،ومنهم متحدث بالسوسية،وآخران بلسانين آخرين من الأمازيغية،فضلا عن الصحافية مسيرة البرنامج،وقد كشف الحوار عن كثير وكـمّ هائل من الكلمات غير الأمازيغية،رغم أن المتحدثين يتكلفون عناء البحث عنها ،لكن ذلك لم يسعفهم إلا بالمزيد من التوغل والإمعان في استيراد ألفاظ وكلمات خارج نطاق الأمازيغية،بما فيها السوسية...
الأستاذ أحمد طاهيري