http://www.islamonline.net/servlet/S...re%2FACALayout
التنظيمات العثمانية.. إحياء الخلافة أم تغريبها؟! (في ذكرى صدورها: 26 من شعبان 1255هـ)
أحمد تمام
ظلت الدولة العثمانية قرونا عديدة ملء السمع والبصر، تعيش على رقعة واسعة تمتد عبر قارات العالم القديم، ويحيا فيها أجناس مختلفة وشعوب متنوعة وأديان متعددة، وكانت القوة العظمى التي تؤثر في مجرى السياسة العالمية.. ثم أتى عليها حين من الدهر؛ دب الضعف في أوصالها، وبدت أمارات الشيخوخة تأخذ طريقها إلى جسد الدولة، وحاول بعض سلاطين الدولة أن يبعثوا الحياة الفتية في الجسد الوهن، ويمدوه بطاقة الشباب، لكن هذه المحاولات نجحت قليلا وأخفقت كثيرا. واستلهمت الدعوات الإصلاحية المبكرة روح الإسلام ومبادئه في علاج الخلل، ونادى المصلحون بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف مؤسسات الدولة، حتى تنهض الدولة وتهب من كبوتها، وتعود إلى سالف عهدها قوة وازدهارا.
وفي أثناء هذه الفترة لم تتوسع الدولة العثمانية في الاقتباس من النمط الأوروبي الغربي؛ حيث لم يكن التفوق الأوروبي بالقدر الذي يثير إعجاب العثمانيين ويدفعهم إلى الاقتباس منه، وكانوا على الأقل يعتبرون أنفسهم دولة عظمى خلال الفترة من (1095-1184هـ = 1683-1770م).
وخلال هذه المرحلة حاول كثير من قادة حركة الإصلاح في الدولة العثمانية القيام بالإصلاحات المعتمدة على الذات لا على الاقتباس من الغرب، ومن هؤلاء شيخ الإسلام سعد الدين أفندي، وخواجة سلطاني عمر أفندي، والسلطان عثمان الثاني، ومراد الرابع، ومحمد باشا كوبريللي.
النموذج الغربي
ومع استمرار الدولة في الهبوط، وازدياد الضعف في أعضائها، ارتفعت بعض الأصوات بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من التقدم الأوروبي والأخذ بأسباب حضارتهم، لضمان المحافظة على وحدة الدولة وصون حياتها.
وأول حركة إصلاحية تبنت هذا المفهوم كانت في عهد السلطان أحمد الثالث؛ حيث بدأ نفوذ الثقافة والحضارة الغربيتين يتسلل إلى الدولة العثمانية، وتجمع حول السلطان والصدر الأعظم بطانة من المثقفين المؤمنين بهذه الوجهة، وشغف هذا العهد بتقليد الغرب ومحاكاة الحياة الأوروبية في تشييد القصور الفخمة والميل إلى الحياة المترفة، وأدت هذه السياسة إلى ظهور حالة من الاستياء وعدم الرضا تجاه السلطان وإدارته، وقد وصفت المصادر العثمانية عهد السلطان أحمد الثالث بعصر زهور شقائق النعمان؛ تعبيرا عن الأخذ بالمظهر دون الجوهر، وإشارة إلى العناية الفائقة بهذه الزهور في كل أنحاء العاصمة العثمانية.
ثم شهد عصر السلطان سليم الثالث بدايات الإصلاح الحربي، وتطوير التعليم العسكري على النمط الغربي، وما ارتبط به من اقتباس من المعرفة الأوروبية.
محمود الثاني وإصلاح الدولة
السلطان محمود الثانيتولى السلطان محمود الثاني مقاليد الدولة العثمانية سنة (1199هـ = 1748م)، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، يمتلئ حماسة وحمية، ورغبة في الإصلاح والنهوض، ورأى أن نجاح الإصلاح في دولته يجب أن يكون شاملا لكل النظم العثمانية، ولا يقتصر على المجال العسكري، ولذا عزم على إزالة النظم القديمة حتى لا تعترض طريق الإصلاح.
وكان السلطان يرى أن ازدياد نفوذ فرقة الإنكشارية قد وقف في طريق كل محاولة للإصلاح يقوم بها السلاطين العثمانيون؛ فتخلص منهم في سنة (1240هـ = 1826م)، ووجه عنايته إلى بناء فرق عسكرية تأخذ بالنظم الحديثة، وأجرى إصلاحات واسعة في الدولة؛ شملت التعليم والصحة والعمران والزراعة.
وسعى محمود الثاني إلى تشكيل إدارة مركزية جديدة عبر نظارات (وزارات) وزعت عليها شئون الدولة بأسلوب حديث، وأصبح الصدر الأعظم يعرف باسم "باش وكيل"، ومنح صلاحيات واسعة في إطار الجهاز التنفيذي للدولة.
وحاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة المركزية، وأجرى أول إحصاء للأراضي العثمانية في العصر الحديث، وأدخل تحسينات على شبكة المواصلات، وأدخل البرق وخطوط السكك الحديدية، واستحدث الرعاية الصحية لمواجهة الأمراض المعدية.
وفي مجال التعليم أسست "مدارس رشدية" لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، وأنشئت مدارس تعد طلابها للالتحاق بمدارس البحرية والطب والزراعة والهندسة والمدفعية، وأكثر السلطان من إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا لأول مرة، وظهرت في عهده أول جريدة تركية في الدولة.
ولم تتوقف إجراءات محمود الثاني في الشئون الداخلية عند إحداث تغييرات في الشأن الداخلي، بل خطا خطوة استهدفت توجيه المجتمع نحو الغرب؛ حيث أجرى تغييرات في الزي الذي يرتديه موظفو الدولة، وأدخل في المجتمع المسلم العادات والتقاليد الأوروبية.
ومن أخطر الأمور التي اتخذها السلطان محمود كان تقليص صلاحيات علماء الدولة وفقهائها، فسحبت من أيديهم إدارة البلديات والأقضية والمدارس والمعارف، ولم يبق تحت إدارتهم سوى المدارس التي تدرس الدين ومحاكم الحقوق المدنية وأمور الدين.
وقبل وفاة السلطان محمود أعد ما يعرف في التاريخ العثماني بحركة التنظيمات، وهي حركة إصلاحية على النمط الأوروبي امتدادا لما قام به السلطان من إجراءات في الدولة، لكنه توفي قبل إعلانها في سنة (1255هـ = 1839م).
"التنظيمات العثمانية"
السلطان أحمد الثالثبعد وفاة السلطان محمود الثاني خلفه ابنه عبد المجيد وهو دون الثامنة عشرة من عمره، ويصفه المؤرخون بأنه أول من تعلم الفرنسية بطلاقة من بني عثمان، وتلقى منذ حداثته الثقافتين العربية والشرقية، ولم تكن له سطوة أبيه ولا دهاؤه الواسع، ورث عنه تركة ثقيلة ومشكلات معقدة، وكانت لديه رغبة كبيرة في استكمال ما بدأه أبوه من إصلاحات في الدولة على النهج الذي التزم به.
وعندما توفي السلطان محمود الثاني كان مصطفى رشيد باشا في لندن، وهو من رجال الإصلاح، ويعد تلميذا للسلطان في هذا الشأن، فلما بلغه خبر وفاة السلطان عاد على الفور، وأبلغ السلطان الجديد بطلبات أبيه التي كان قد أعدها لكنه لم يعلن عنها، فأعلن موافقته على إعلان هذه التنظيمات.
وفي (26 من شعبان 1255هـ = 3 من نوفمبر 1839م) تلا رشيد باشا أمام كبار رجال الدولة والشعراء والسفراء ما عرف بفرمان التنظيمات في ميدان كلخانة، وقد حرص البيان على إضفاء الصبغة الإسلامية فيما تناوله من إجراءات، حين أكد على أن عدم الانقياد إلى الشرع الشريف كان السبب فيما أصاب الدولة خلال السنوات المائة والخمسين السابقة له من تدهور وضعف، وأن المقصود من إصدار هذا الفرمان هو إحياء الدين والدولة معا.
أهم بنود التنظيمات
وقد تضمنت التنظيمات العثمانية المساواة التامة بين رعايا الدولة والمحافظة على حياتهم وأملاكهم ووجوب علانية المحاكمات ومطابقتها للوائح، وإلغاء مصادرة الأموال والأملاك ما لم تقر ذلك المحكمة، وضرورة إيجاد نظام ثابت للضرائب يحل محل نظام الالتزام الذي وصفه الفرمان بأنه من آلات الخراب، ولما كان الموظفون والضباط يحصلون قبل هذه التنظيمات على مرتباتهم من ريع الالتزامات، أصبح من الضروري تحديد مرتبات للولاة والموظفين، وكان المعروف أن الوالي يأخذ الولاية بأن يلتزم بدفع مبلغ معين سنويا يقوم بجمعه، ويستولي هو على ما كان زائدا عن المبلغ المحدد.
ونص فرمان التنظيمات على أنه لا يجوز لأي موظف أن يتعدى حدود صلاحياته الممنوحة له قانونا؛ فإن كان عسكريا يشتغل بالأمور العسكرية، وإن كان من العلماء يشتغل بالأمور الدينية والواجبات الأخرى المحددة.
وصدرت في أعقاب هذا الفرمان الذي عرف بـ"خط كلخانة" مجموعة من القوانين لتنفيذ توصيات هذا الفرمان، وأدى ذلك إلى حدوث تغييرات كثيرة شملت مجالات الحياة؛ فانشقت المحاكم المختلطة التي تقبل الشهادة من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وتبُتُّ في القضايا التي يكون الأجانب أطرافا فيها، وكان يعمل بتلك المحاكم قضاة أتراك وأوربيون، كما صدر قانون تجاري على نمط القانون التجاري الفرنسي، وظلت القوانين الشرعية تطبق في المحاكم التقليدية، وكذلك في المحاكم الحديثة التي تطبق القوانين المأخوذة عن القوانين الفرنسية وغيرها، وذلك فيما يتصل بالأحوال الشخصية.
وظل المسلمون فقط يؤدون الخدمة العسكرية حتى صدر قانون سنة 1855م الذي وسع نطاق الخدمة العسكرية؛ لتشمل كل رعايا الدولة دون استثناء، وكان الغرض من صدور هذا القانون علمنة الدولة والمساواة بين أفرادها دون مراعاة لاختلاف الدين، ولكن المسيحيين اعترضوا على هذا القانون، وعلى أدائهم الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، ووجدوا تأييدا من الدول الأوربية، واضطرت الدولة العثمانية أمام الضغوط الأوروبية أن تعفي المسيحيين من الخدمة العسكرية في مقابل ضريبة عرفت باسم "بدل عسكرية" يؤدونها بدلا من الخدمة العسكرية.
وعلى الرغم من أن التنظيمات العثمانية ساوت بين رعايا الدولة، اعتبرت المسيحيين مواطنين لهم مثل الحقوق التي يتمتع بها المسلمون؛ فإن هؤلاء الرعايا المسيحيين دأبوا على الشكوى، وفي الوقت نفسه كانت الدول الأوربية تحرضهم على الثورة والخروج على الدولة؛ ليكون ذلك مدعاة لتدخلهم في شئون الدولة العثمانية.
وشملت التنظيمات إصلاح التعليم في جميع مراحله، وجعل التعليم إجباريا في المدارس الأولية ومجانيا لمدة 4 سنوات ودون تفرقة بين الذكور والإناث أو تمييز بين المسلمين وغيرهم.
وقد انفصلت مدارس الحكومة رسميا عن إشراف العلماء، ووضعت تحت إشراف وزارة المعارف ذات الصبغة العلمانية، وفي الوقت نفسه لم تمتد يد الإصلاح إلى المؤسسات التعليمية التقليدية؛ الأمر الذي أدى إلى اتساع الهوة بين التعليم الديني والتعليم العلماني وتعميق الازدواج الثقافي.
بعد إصدار فرمان التنظيمات بستة عشر عاما أصدر السلطان عبد المجيد فرمانا جديدا على نفس أهمية الفرمان السابق، اشتهر باسم "إصلاحات خط همايوني"؛ وذلك بهدف كسب الرأي العام الأوروبي، وإكساب الدولة العثمانية طابع الدولة الأوروبية، ويبحث هذا الفرمان موضوع حقوق المساواة الخاصة بالرعايا غير المسلمين في الدولة العثمانية؛ حيث نادى بضرورة تولي غير المسلمين مناصب الدولة، وكفل لهم حرية العبادة وحرية إنشاء المدارس، على أن تتفق في المنهج مع مدارس الدولة، ومنح البطريق سلطات واسعة في الأحوال الشخصية لملته.
وقد قوى هذا الفرمان المشاعر القومية لدى رعايا الدولة غير المسلمين الذين يعيشون في حدودها؛ الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى تمزيق الدولة، كما أنه وفر غطاء قانونيا لحركة التبشير والمبشرين المسيحيين الذين استقروا بأعداد كبيرة في مختلف ولايات الدولة.
نتائج حركة التنظيمات
ويجب الاعتراف بأن حركة التنظيمات لم تحقق جميع الأماني التي كان يعلقها عليها الإصلاحيون، ولم تجد فيها الجماهير التركية العثمانية المسلمة ما كانت تسمعه عن مزاياها، ولم تجلب الخير للدولة، بل كانت البوابة التي مارست عبرها الدول الأوروبية التدخل في شئون الدولة العثمانية، والضغط عليها، وتسلل الأجانب إليها؛ بحجة أنهم خبراء في مسائل الإصلاح والمسائل المالية والاقتصادية، وشجعوا الدولة -خدمة لمصالح دولهم- على سياسة عقد القروض الأجنبية بفوائد عالية، أوهنت الدولة بعد أن كانت تعتمد على سياسة الاكتفاء الذاتي.
ولم يفرق الإصلاحيون في محاولتهم إحياء الدولة بإصلاح الجيش وإدخال الحياة الدستورية وتطوير التعليم وتنظيم الاقتصاد.. بين ما يجب أن ينقل من أوروبا وما يجب الإبقاء عليه من التقاليد القومية؛ فكان مما أخذ عليهم تقليدهم للمظاهر الشكلية للحضارة الأوروبية دون أن يستوعبوا جوهرها. ولذلك أدخلوا في الميدان الاجتماعي إصلاحات من قبيل الترف الحضاري، مثل استخدام الملابس الأوروبية والأثاث الأوروبي ووسائل الأكل، وما إلى ذلك من مواد استهلاكية، ولم يتجهوا إلى إدخال الصناعات الثقيلة والمشروعات الإنتاجية التي تنهض بالدولة وتدفعها إلى الأمام.
وأخطر من ذلك كله أن المعارضين لهذه الحركة الإصلاحية وضعوا في طريقها العقبات؛ باعتبارها طلبات ورغبات جاء بها أجانب مسيحيون، وأن غرضهم الحقيقي هو مصالح دولهم، وكان هذا موضع ريبة الجماهير؛ لأنهم في نظرهم أعداء الدولة وأعداء الإسلام.
ومما يعجب له المرء أن سياسيا نمساويا شهيرا يدعى "إنجلها روت مترنخ" حذر العثمانيين من الحظر الكامن وراء استعارة أساليب الحضارة الأوروبية المتعارضة مع الحضارة الإسلامية العثمانية، ودعا العثمانيين إلى أن يظلوا متمسكين بطابعهم الإسلامي الشرقي، على أن يمنحوا أهل الذمة الحماية وحرية العبادة!!
هوامش ومصادر:
- سيد محمد السيد - دراسات في التاريخ العثماني (مجموعة بحوث مترجمة عن التركية) - دار الصحوة للنشر – القاهرة- (1416هـ = 1996م). - عبد العزيز محمد الشناوي - الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (المجلد الرابع)- مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة- 1986م.
- محمد عبد اللطيف البحراوي - حركة الإصلاح العثماني- دار التراث - القاهرة - 1398هـ = 1978م.
يلماز أوزتونا - تاريخ الدولة العثمانية – ترجمة عدنان محمود سلمان (المجلد الثاني) – منشورات مؤسسة فيصل للتمويل – إستانبول – 1990م.