دوار السبت كان يبدو هادئا, وغبش الصباح ينقشع عن سمائه رويدا. عبر الحقول الجرداء الممتدة ملء الافق , لاحت بعض الاشجار العارية ومناطق من نبات الصبار .
وعند ربوة لالا تيوشانين 1وهو اسم يطلقه اهل المنطقة على شجرة تعلو الربوة , بدت مدرسة الدوار بثوبها الابيض , يحوطها سور من الطوب والحجارة اقامه الاهالي, وعلى بعد امتار منها , قام بئر عام حفرته السلطات الفرنسية ابان استعمارها للمغرب , قديما كانت مروحته الهوائية تدور فتنقل الماء الى المجاري الاسمنتية , لكنها مع مرور الزمن تقادمت ولم تعد تعمل, فاصبح الاهالي يستعملون الدلاء للحصول على الماء , وهناك عند حافة الطريق المزفت المؤدي الى المدينة وقف محمد احمق الدوار , وهو طفل لايتعدى عمره العشر سنوات يقذف الكلاب بالحجارة تارة , او يمارس طقوسه الغريبة تارة اخرى . اطفال الدوار كانوا ينحدرون نحو المدرسة متأبطين محافظهم القديمة وأثر عمش النوم مايزال على عيونهم, كان صالح بينهم يمشي وحده الهوينى , محفظته الصغيرة تتدلى خلف ظهره , يحك يديه المتسختين الى بعضهما حتى يتدفأ , وهو يتجشأ رائحة الزيت البلدي (زيت الزيتون)الذي اعتاد على تناوله عند الافطار.
وداخل ساحة المدرسة بدا المعلمون بميداعاتهم البيضاء يذرعون ساحتها جيئة وذهابا في انتظار موعد الدراسة. اما المدير فكان في مكتبه الصغير , منكبا على إعداد بعض الوثائق التربوية والادارية كعادته.
اتكأ صالح على السور الطوبي منفردا عن التلاميذ , الذين انصرف بعضهم الى الحديث في زمر, وانبرى بعضهم الاخر في اللعب. عيناه كانتا تلاحقان جحشا صغيرا يلهو ويتمرغ في التراب قرب أمه المنصرفة الى أكل بعض الحشائش القصيرة. هاهما الان تنتقلان الى ملاحقة دجاجة منفوشة الريش تتبعها كتاكيتها .ان مثل هذه المشاهد تأسر فكر صالح , وتثير في داخله نشوة غريبة , فقد كان يجد متعته مع الحيوانات أكثر مما يجدها صحبة الاطفال من سنه, فهو مثلا يحب مداعبة حمار جده . جده هذا الذي يرتدي ثلاثة جلابيب وبرنوسا خلال ايام الله كلها دون أن يميز بين صيف أوشتاء, هذا الاخير كان يعنفه كثيرا ويطارده متى رآ ه يداعب حماره..
حل موعد الدراسة , بدأ التلاميذ يدخلون مصطفين الى ساحة المدرسة .انضم صالح الى زملائه الذين وقفوا امام باب القسم.
داخل حجرة الدرس كان ساهما كعادته لا يعرف ماذا يدور حوله اويجري, كان التلاميذ يرفعون اصابعهم باستمرار , واصواتهم ترتفع وهو لا يفعل شيئا. انه عامه الاول بالمدرسة وهو يعيش حالة ارتباك وتشتت , كثرة التلاميذ كانت تمنع المعلم من الاهتمام بامره.
كان وجهه الصغير واجما , وعيناه القسطليتان زائغتين تبحثان عن موقع دون جدوى , وأنفه الدقيق يفرز مادة المخاط المنساحة على شاربيه, ترى ماذا يدور بخلده...؟؟؟
اليوم قبل ان يغادر البيت في الصباح , عاش من جديد فصول الخصومة المعتادة بين والديه , وتكررت نفس المشاهد التي ألفها , فأمه تبكي وجلا, وأبوه يصب عليها جام غضبه , ويطوح بعصاه الغليظة في وجهها ,رافعا عقيرته بالصراخ العاصف, لم تكن هناك قوة تستطيع ان تحوشه عنها فهو مالكها وصاحب الحق فيها , ناهيك على ان افراد اسرتها فوضوا امرها كليا له , حتى يقوم نشوزها, وهي لا تملك سوى السمع والطاعة , لم يكن صالح يفلت من وحشية أبيه فكثيرا ما بصق في وجهه , او ركله بقدمه وهو يردد لازمته المعتادة..ابتعد يا ابن العاهرة...وقد كان كل يوم يمر يزرع فؤاد الصغير حقدا وضغينة على والده , بل إنه تمنى له أكثر من مرة الموت حتى يرتاح , وترتاح معه أمه المغلوبة على امرها.
انتهت الحصة الدراسية الصباحية , واندفع التلاميذ كالعادة نحو باب القسم يحثون الخطى الى دورهم , فعصافير بطونهم تزقزق وعليهم ان يسكتوها بالخبز والشاي..
اجتاز صالح بوابة المدرسة وسط نفر من أصحابه وهو صامت ,كان يسير مطأطأ الرأس, لكنه سرعان ما رفعه عندما مرق بالقرب منه بعض التلاميذ راكضين نحو البئر , كان هناك جمع غفير من النساء والرجال يكونون دائرة واعناقهم مشرئبة نحو شيء ما, وعلى مقربة منهم بدت سيارة الدرك جاثمة, اندفع صالح بوازع غريزة حب الاستطلاع نحو الجمع ومالبث ان انسل من بين الاقدام , ووقعت عينه على الشيء الذي التم حوله الناس, كان جسد امه وقد تبلل كليا بالماء, واكتست بعض مناطقه ببقع من الوحل.اندهش اول الامر ولم يصدق عينيه وتردد برهة قبل ان يندفع نحو الجسد المسجى , فيحركه بقوة صارخا ملء صوته: (امي امي فيقي انا صالح )
دون ان يتلقى جوابا ..حاول احد الدركيين ان يبعده عن الجسد بلطف زائد , لكنه تشبث به, ودفن وجهه في الصدر الحبيب الذي طالما ضمه , وانسلت الدموع حارة من عينيه . كيف يحدث هذا ؟؟ من سيدفع عنه الآن شر والده ؟؟ من سيوقف وحشيته؟؟..لقد قض مضجعه, وقصت اجنحته وليس له بعد اليوم الا السماء ....
1 هذه الشجرة توجد بدوار السبيت ببلعشاشكة منطقة السماعلة دائرة وادي زم.
محمد محضار وادي زم يناير 1986
نشرت هذه القصة بجريدة العلم يوم الاربعاء 12 فبرير 1986
ملحوظة: بعد مرور عشر سنوات على كتابة هذا النص اخبرني احد الزملاء ان صالح رحل عن هذا العالم ..فالى روحه الطاهرة والبريئة اهدي هذا النص..................
راقتني قصتك ايها العميد من حيث هذا التدرج الواعي والدقيق لتعاقب الاحداث والتركيز على الشخصية الرئيسية في بعديها المكاني والزمني مستخدما تقنية الاسترجاع....فضلا عن اللغة الجميلة التي كتب بها النص....وبالنظر الى تاريخ كتابته يمكن القول: ان الابداع لازمك منذ الصغر ايها المبدع الاصيل....فهنيئا لنا بك ايها الصديق الحبيب محضار...وهنيئا لدفاتر بقلمك الخصب.....
تقبل اعجابي الشديد بوهج حرفك....
لك تحياتي وتقديري...
René Char : "Impose ta chance, serre ton bonheur et va vers ton risque. A te regarder, ils s'habitueront.
راقتني قصتك ايها العميد من حيث هذا التدرج الواعي والدقيق لتعاقب الاحداث والتركيز على الشخصية الرئيسية في بعديها المكاني والزمني مستخدما تقنية الاسترجاع....فضلا عن اللغة الجميلة التي كتب بها النص....وبالنظر الى تاريخ كتابته يمكن القول: ان الابداع لازمك منذ الصغر ايها المبدع الاصيل....فهنيئا لنا بك ايها الصديق الحبيب محضار...وهنيئا لدفاتر بقلمك الخصب.....
تقبل اعجابي الشديد بوهج حرفك....
لك تحياتي وتقديري...
اسعدتني اطلالتك امير القوافي هذا الصباح ..وسرني اطراءك وتقريضك الذي اعلم انه من القلب..لانني ادرك بان سمو اخلاقك وتواضعك الجم يجعل تعاملك مع اصدقائك نبعا من الحب الصافي لا تشوبه شائبة ..فدم لنا سندا...اعزك الله ايها السامق.......