إنسان هذا المحيط تتأقلم، وتكونت نفسيته وعقليته على هذا البساط، لن ترى شخصا في هذا الصباح الباكر سوى فتاة قد أنهكها ثقل الأعواد على ظهرها اللين، الذي لا يزال فتيا، وتعلو وجهها قسواة، وجه لم يعرف الماء ولكن لم تمحى منه ملامح البراءة، وعيون براقة تخفي ذكاء حادا.
هي الوحيدة في هذا المكان – تتوغل كل يوم داخل الغابة تجمع حطب التدفئة، تدفئة الآخرين – وهي تتلوى من شدة البرد.
لا تلهو كأقرانها، هي دائما في شغل تحملت عبء الدنيا وقسواة الظروف رغم صغر سنها، توغلها داخل الغابة، ويوميتها إليها قادتها إلى اكتشاف أكثر وأعمق لهذا المكان ... أخذت تشق طريقها داخل الغابة الموحشة... لكن لم تبدوا كذلك. تكاثفت الأشجار وتداخلت الأغصان ... عم السواد ... انمحى النور ولم يعد يجد طريقه بين الفجوات، لم تتوانى، ولم تعد إلى الوراء. أخذت في التوغل شيئا فشيئا. بعدما أنهكها السير ... أخذ الخوف يدب إلى نفسها وتساقطت الأفكار المظلمة الواحدة تلو الأخرى، التجأت إلى جذع شجرة عظيمة أرخت سدولها فتشابكت أغصانها كأنما خيطت لكن بغصون، أراحت جسمها المتعب والنحيل، وارتخت عضلاتها فدب النعاس إلى عينيها رغم المكان الموحش والمخيف ... إلا أنها اطمأنت له، ودفعت مخاوفها إلى غير رجعة.
أزهار بيض تحيط بالبيت الخشبي، دخان متصاعد من مدخنة البيت، يحرق زرقة السماء، دفء ونور داخل هذا البيت، تدور الفتاة حول نفسها، عليها فستان أبيض، بسمة تتحول إلى ضحكة، ضفيرة من شعر أشقر تضيف جمالا وبهاء إلى هذه الفتاة.
عم الضباب المكان كساه ببياض لامع زاد المكان نور وضياء، لا تزال الفتاة تغط في نوم عميق، جزئيات الماء المتكاثفة سقطت على جبينها المتورد الأبيض، نقطة باردة أيقظتها على البياض ... الذي أزاح ظلمة السواد أدارت وجهها باتجاه ورود بيضاء بين جذوع الشجرة العظيمة.
الحياة هنا تخلق من جديد، لا تبدو كغيرها من الحيوان خارج هذا المكان، وكل شيء يبدأ من نقطة ماء ينفتح على الحياة ويكسوه البياض ويتنشف النور الذي يضيء أوصاله.
اندهشت الفتاة من هذا البياض الذي يكسو المكان، لم ترى قط هذا النور ... الذي زاد من حدة لمعان عينيها، تمالكت نفسها، عاد الخوف من المجهول من جديد يراود الفتاة ... أين هو طريق العود ... إلى البيت إلى الدفء وإلى الآمان.
لم تعد هناك طريق إلى كل هذا ... هل هذا البياض مزيف ... زائل بعدما ما عم السواد.
في خضم هذا الخوف، سمعت ضحكات قوية مدوية في هذا الفراغ ... ارتعدت فراء سها من شدة الخوف، إنها ضحكات معروفة ومألوفة لديها، هي ضحكات العمة القاسية، تداخلت الأصوات من بكاء، نحيب وضحك إنها أصوات أفراد العائلة ... ماذا حدث ! ...
أخذت الفتاة في الجري والركض بكل ما تتسع رؤيتها له، لا تلتفت إلى الوراء ولا ترى إلى أين تجري ... بدون اتجاه ولكن الأقدار تدفعها إلى طريق واحد إلى طريق البيت، لم تعد الأشجار متكاثفة ومتشابكة لم يعد البياض ... وعاد السواد ليملأ أرجاء الغاب، كل هذا لم يثر انتباهها ... فهي تجري مرعوبة شاردة الذهن، إلى أن أوقفتها سحابة سوداء، ولهيب متصاعد من البيت، ما أذكى النار سقف هذا البيت من عيدان، لم تصدق الفتاة ما ذا يحدث، هل ما كان مأمنا، دفئا، مأوى احترق، اندثر ... تلاشي ليدفئ السماء، والغاب والوحيش، أما هي فستبقى من غير دفئ، أين ما كان أفراد عائلة ... الكل مفقود ... ماتوا ... بل احترقوا، هل هذا هو مصيرهم، حتمية قدرهم.
لا يسع العقل إلى التفكير بأكثر من هذا، فهي لا تعرف معنى للموت، ولا معنى للمصير ... حياتها شقاوة ... ظلم وسواد ثنائيات لوصف حالة إنسان.
صرخت بأعلى صوتها، دوت الصرخة في السماء ... وتلاشت في هذا الفضاء الواسع لم تكن إلا صرخة ألم ... صرخة فقدان للأمل، في الدفء، في الأمان الذي لم يكن موجودا في هذا البيت المحترق.
زقزقة الطيور، ودبيب النمل على رجليها أيقضها، انتقضت قائمة ... مذهولة ... وفي جعبتها أسئلة محيرة ...
هل البيت تلاشى، هل أفراد العائلة توفوا واحترقوا ... بكت بدموع غزيرة ... جمعت الأعواد وعادت إلى البيت تمسح دموعها.
الكل نائم في هذا الصباح الهادئ والجميل، العمة في شغلها اليومي فطور وغذاء وشغل بيت يتداعى إلى السقوط.
دخلت وردة تحمل الأعواد التي أثقلت كاهلها، وابتسامة مرسومة على شفتيها، وتوردت خذيها، وعلى وجهها نور لم يعد له مثيل، الكل نائم في هدوء، وهي التي خرجت منذ الصباح الباكر قد عادت إلى شغلها اليومي ... في نشاط دائم.
لقد كان ما جرى في الغابة حلم مزعج ... أم هو تنبأ لما قد تدور به الدوائر وتجري به الأقدار ... ؟!