وضع المتقاعد في المجتمع المغربي
في لقاء مع الباحث السوسيولوجي عبد الرحيم العطري
وضع المتقاعد في المجتمع المغربي
أجرت اللقاء : خديجة بوعشرين
1- يبدو أن وضعية المتقاعد لا تبعث كثيرا على الارتياح بالمغرب ، لماذا في نظركم يعيش أغلب المتقاعدين أوضاعا هشة و صعبة ؟
إن الصورة النمطية التي ترسبت في الوعي الجمعي عن المتقاعدين ، تؤكد فعلا درجة عليا من الهشاشة و صعوبات الاندماج ، فالصورة التي ترتسم و تتجذر عن المتقاعد ، هي تلك المفتوحة على جلسات " الكارطة " و " الضامة " و محاولات تزجية الوقت بمسلكيات عديدة .
فالمتقاعد يلوح كشخص انتهت صلاحيته و إنتاجيته ، بعدما لم يعد له منصب مالي في الإدارة التي كان يعمل بها ،بل إن التقاعد يؤشر في كثير من الأحيان على كل ما هو سلبي ، فهو يأتي في مقابل العمل و الوقت المستغل فيما يفيد و الإنتاجية و الفعالية ، أما التقاعد فيدل مغربيا على اللا جدوى و الهشاشة و عدم الفعالية ، لهذا لا تبعث مرحلة التقاعد عموما على الارتياح .
أسباب هذه الوضعية بالطبع تتصل بكثير من العوامل ، يتداخل في صوغها الإداري و الثقافي و الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي ، فمن الناحية الإدارية ما زال نظام التقاعد و بالرغم من كل الإصلاحات التي عرفها ، ما زال دون المأمول و المقبول ، كما أن الإدارة المغربية لا تعمل لحد الآن بمنطق التحفيز و هندسة الكفايات و الموارد البشرية ، و لهذا في تلفظ موظفيها المحالين على التقاعد دون أن تنتبه لهم أو تكافئهم على سنوات عمرهم التي أفنوها في خدمة الإدارة ، بل إنها لا تجشم نفسها عناء تدبير ملفاتهم المالية في أقرب الآجال ، الشيء الذي يجعل الأجرة في خبر كان لسنة و أكثر ، و هو ما ينتج كثيرا من الأعطاب و الأوضاع المؤثرة .
ليس ما هو إداري هو المسؤول فقط عن هكذا وضع من الهشاشة بمكان ، بل حتى ما هو اجتماعي يساهم في تكريس ذات الوضع ، فالقبول المجتمعي بالمتقاعد في كثير من الأسر المغربية يظل محدودا ، ذلك أن التقاعد يعني فيما يعنيه نهاية مشوار العمل ، و نهاية الأجرة لعام و أكثر و رجوعها في حدود النصف أو أكثر في مطلق الأحوال ، و هذا يقود مباشرة نحو اختلالات بنيوية على مستوى الأسرة و آليات تدبير اليومي بها ، و هو ما يخلق بالتبعية اختلالا آخر على مستوى الرساميل و السلط الرمزية و المادية المتوزعة داخل الأسرة ، بحيث تسحب من المتقاعد كثير من السلط و يدخل بالتالي في وضع الهشاشة و سوء الاندماج .
2- يصاب المتقاعدون بأضرار نفسية وجسدية مباشرة بعد تقاعدهم ما هي الأسباب؟
تراجع إمكانيات تدبير الفضاءات و الأنساق الخاصة ، و تقلص سلط التوجيه و الإكراه بسبب الافتقاد المؤقت أو النهائي لوسائل الإنتاج ، لا بد و أن تكون له نتائج غير محمودة العواقب بالنسبة لكل الأطراف ، فاليومي المؤطر لحياة الشخص المتقاعد يتغير بدءا من اليوم الأول الذي يحال فيه على التقاعد، غنه ليس مضطرا في ذات اليوم ليضبط منبه الساعة مبكرا ، و ليست الزوجة مضطرة للاستيقاظ باكرا لتحضير فطوره و ملابسه ، و ليست مضطرة أيضا لتحضير حاجياته الأخرى في حدود الدقيقة و الثانية ، الوقت هنا أصبح غير جدير بالصرامة ، و هذا ما يفتح الباب لتنازلات و اختلالات أخرى .
هذا اليومي الذي يتعرض للاهتزاز لا يمر بسهولة ، فالمرء تم تطبيعه اجتماعيا و لسنوات عدة على سلوك يومي متكرر ، فكيف يكون التخلي الفجائي عنه ، إنه لن يتكيف مع الأمر بسهولة ، الزوجة بدورها لن تسعفها الظروف مباشرة للتكيف مع مكوث الزوج بالبيت و هي التي تعودت لمسافة زمنية ليست بالقصيرة على امتلاكها الكلي للفضاء ، فها وارد جديد صار اليوم بجانبها لا يبرح البيت إلا قليلا ، و حتى و إن خرج ، فهو لن يتجاوز حدود " الحومة " برفقة آل الضامة و الكارطة ، فهو حاضر في نفس المجال .
من هنا تنطلق شرارة المشاكل النفسية و الاجتماعية و يصير الاندماج المعطوب أفقا محتملا لكثير من المتقاعدين الذين ينتمون أساسا إلى السلالم الدنيا و المتوسطة ، فتغير اليومي و انقلابه لا بد و أن تنجم عنه مشاكل نفسية تكيفية ، و بخصوص الأمراض الجسدية الأخرى فتكون بسبب التقدم في السن و تراجع مستويات الرعاية و الاهتمام الفردي و المؤسساتي .
3- لماذا لا يتقبل جل المتقاعدين هذه المرحلة ,مع العلم أنها مرحلة مثل كافة المراحل التي يمر بها الإنسان بدءا بالطفولة والشباب ثم الشيخوخة؟
لابد من الإشارة إلى أن هذه المرحلة لا تشبه المراحل الأخرى من حياة الإنسان ، و ليست طبيعية بالمرة ، إنها مفتوحة على النهايات ، و هو ما يجعلها لا طبيعية و لا مقبولة نفسيا و اجتماعيا ، فالتقاعد يأتي ليذكر المرء بالتقدم في السن ، و يكون بمثابة إشهار رسمي و إداري لبلوغ الستين عاما بالتمام و الكمال.
أما مسألة القبول الاجتماعي بمرحلة التقاعد فتظل دائما محدودة ، فبالرغم من التصريح دوما بالرغبة في الانتهاء من العمل الإداري و الارتكان إلى الراحة ، فإن التشبث بالعمل يظل واقعا لا يمكن التفاوض بشأنه ، لنفهم هذا الأمر علينا أن نتساءل عن قيمة العمل في المجتمع المغربي ، فالعمل هو الفيصل بين مرحلة العطالة و الفعالية ، إنه تأشيرة عبور نحو الاندماج المجتمعي ، كما أنه يعبد الطريق نحو الزواج ، فالعمل هو عنوان النجاح مغربيا و لو كان درجة أخيرة في سلالم الإدارة ، المهم أن يكون المرء عاملا فوق " طابلة المخزن " و له " مانضة " شهرية يهزم بها فواتير الكهرباء و الماء و الكراء و ما إلى ذلك من المصاريف ، فللعمل قيمة حافلة بالدلالات في المجتمع المغربي ، كما أن الذي يعمل هو الذي يتحكم في الغالب في نسق الأسرة ، و هو الذي تتوفر له إمكانيات التوجيه و التدبير . إذن كيف سيكون الأمر في حالة انتفاء هذه الوظيفة التي تمنح كل هذه السلط ؟
ستتراجع سلط التدبير لا محالة ، ستقل فرص الانصياع لا محالة و سيصير الشخص المتقاعد نهاية بلا سلط ، بل إنه سيغدو عاديا كما الآخرين ، و هذا ما لا يمكن أن يقبله بالمرة ، و هو الذي ضبط عقارب ساعته الاجتماعية على أوضاع غير الأوضاع .
4- برفع سن التقاعد إلى 65 سنة ألا ترى أن هذا القرار سيؤثر على الشباب بتقليص فرص العمل وكذلك المتقاعدين؟ وهل هذا القرار أخذ من قبل المسؤولين بناء عن دراسة ميدانية لحاجيات المغاربة وطموحاتهم؟
رفع سن التقاعد إلى 65 سنة أملته شروط موضوعية يعرفها المغرب الراهن ، كما أوجبتها التوقعات المفترضة للمغرب القادم ، فالإحصائيات التي تمدنا بها المندوبية السامية للتخطيط تؤكد أن الشيخوخة تزحف إلى المجتمع المغربي ، فقدتم الإعلان في السنة الفائتة عن كون المغرب يعرف تغيرات ديموغرافية غير مسبوقة تتمثل في ارتفاع نسبة المسنين مقابل انخفاض ملحوظ في نسبة الشباب، هذا العامل الديموغرافي سيجعلنا مستقبلا أمام فئات عريضة من المسننين ، فهل نحيلهم كلهم على التقاعد و لا نفيد من خبراتهم في شيء ؟
عامل آخر استوجب العمل بهذا الأمر ، مرتبط بالمغادرة الطوعية التي جعلت الإدارة تخسر موارد بشرية مهمة ، و لتلافي العجز ، ما دامت الوظيفة العمومية قد أوصدت أبوابها في وجه الشباب ، تنفيذا لتوجيهات تقارير البنك العالمي ، فالحل يتمثل في الاستعانة بذات الموظفين المتخمين لكتلة الأجور ، باستبقائهم في الخدمة لخمس سنوات أخرى .
إذن فقرار 65 سنة جاء نتيجة حسابات مدروسة بالسنتيم ، و نتيجة حاجات ديموغرافية ملحة ، أما من حيث تأثيره على الشباب ، فيجب ألا نجعل القرار بمثابة مشجب نعلق عليه عسر اندماج الشباب في سوق الشغل ، ذلك أن العطالة لها أسباب عميقة أخرى ، و لن يكون رفع سن التقاعد بالمرة السبب الرئيس .
و على العموم يمكن القول بأن أسئلة الأشخاص المسنين بما فيهم المتقاعدين ما زالت بعيدة جدا عن التمكن المعرفي ، فالدراسات العلمية التي تهتم بها تظل محدودة جدا ، و المغرب في حاجة قصوى إلى هذه الدراسات لتدبير المغرب الممكن الذي تزحف إليه الشيخوخة .
5- عادة ما تتداول لفظة التقاعد بين الناس بشكل عادي إلا أنهم وبمجرد وصولهم إلى هاته المرحلة لا يتقبلونها ,فهل تنجح فترة الإعداد النفسي القبلي في حالة التقاعد؟
الإعداد النفسي للتقاعد مسؤولية من ؟ ذلكم هو السؤال الغائب في الإدارة المغربية ، فالتقاعد لا يحظى في الإدارة إلا بمكتب هامشي في أغلب التنظيمات الهيكلية للوزارات ، و نادرا ما نجد مصلحة خاصة بتدبير ملفات التقاعد مهما كبرت قاعدة موظفي الوزارة ، و هذا التهميش المؤسسي ينسحب أيضا على المهام الوظيفية لهذه المكاتب المختصة بتدبير شؤون المتقاعدين ، هذا فضلا عن كون من يعين في هذه المكاتب يكون دوما ممن تعوزهم الخبرة في التعامل مع هذه الفئات نفسيا و اجتماعيا بل و حتى إداريا ، الشيء الذي يجعل الملفات تسير كما السلحفاة في انتظار الاستحقاق المالي ، تماما كما هو الأمر في مكاتب الأرشيف فالمغضوب عليهم أو الذين لا يظهرون كثيرا من الكفاءة هم الذين يعينون في هذه المكاتب ، علما بأن مكاتب التقاعد تتطلب متخصصين في الخدمة الاجتماعية و هندسة الموارد البشرية .
الإدارة لا تكتفي في إطار هذا الإعداد المعطوب إلا بإرسال رسالة جافة لا تذكر جليل الخدمات التي قدمها الموظف طيلة سنوات عمله ، رسالة تذكره فقط بأن اسمه سيحذف من الأسلاك الإدارية في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني ، و حتى عندما يغادر فإنها لا تتذكره حتى بحفل تكريم ، فقط الأصدقاء و الجمعيات هم الذين يقومون بذلك ، فعن أي إعداد نفسي نتحدث ؟
6- نلاحظ أن الكثير من الموظفين والمستخدمين و العمال دون وصولهم لسن التقاعد يطلبون ما يصطلح عليه "التقاعد النسبي" لهم رؤية أخرى لتقاعد بحيث يشكل لهم سن الاستثمار وليس سن اليأس ما هو تحليلكم الاجتماعي لهاته الفئة؟
أولا التقاعد ما كان يوما سن يأس و قنوط ، هو بمثابة استراحة محارب ، تنهدم فيها أنساق و تنبني فيها أخرى جديدة ، تهتز فيها علاقات و تتأسس فيها أخرى ، هو مرحلة من العمر يتعرض فيها اليومي للتغير بشكل بارز ن و هو ما ينتج كل الاختلالات و التغيرات و المشاكل المتحدث عنها سابقا . هذا هو التقاعد في اعتقادي المتواضع .
أما بخصوص الذين يختارون توديع الإدارة قبل أن تفعل هي ، فلهم أسبابهم الموضوعية و الذاتية ، فغالبا ما يكون العامل الصحي المرتبط بالمرض أو الاجتماعي من قبيل التفرغ للعائلة حاسما في هذا الاختيار ، أما البعد الاستثماري فيظل محدودا و معزولا ، و لا أدل على ذلك ما أفضت إليه المغادرة الطوعية ، فما هي القيمة المضافة التي أنتجتها هذه العميلة على المستوى الاستثماري ؟ أغلب المغادرين طوعا أو كرها أنفقوا ما حصلوا عليه في تغطية سلفاتهم و استكمال تجهيز بيوتاتهم و تدبير مشاكلهم السوسيواقتصادية ، و الذين استثمروا منهم يظلون في حدود الاستثناء الذي لا يقاس عليه . و لكي نطرح السؤال بأكثر درجة الوضوح ، نقول : هل غادر الوظيفة 40 ألف موظف ، فهل حصلنا بالمقابل و لو على 10 ألاف مشروع استثماري ؟
الجواب على هذا السؤال يعفي من تعميق النظر في مسألة التقاعد النسبي التي لا تمنح مختارها ما تتيحه المغادرة الطوعية من إمكانيات مادية ن و هو ما يعني أن العوامل الصحية و الاجتماعية تحسم النهاية لصالحها في مسألة التقاعد النسبي.
7- في الغرب نلاحظ أنهم يقبلون على التقاعد بدءا من سن مبكر تبتدئ من 35 سنة بغية التجوال والسياحة هل يمكننا القول أن هذا النموذج بدأ يغزو المغرب مؤخرا لكنه يظل نخبوي أو شكلي؟
الأمر يبدو مستبعدا في المغرب ، فقط لسبب بسيط هو أن الاندماج في سوق الشغل يظل متأخرا بالمغرب ، فنتيجة انسداد الآفاق و شيوع البطالة ، لا يجحد المرء عملا قارا إلا بشق الأنفس و في حدود الثلاثين سنة و أكثر ، فكيف يغادر في سن 35 ، علينا أن نعلم جيدا أن التقاعد في المغرب لا ينطرح كمشكل للتحرر من ضغوطات العمل ، بل ينطرح كمشكل لانتهاء هذه الضغوطات أصلا ، فالمغربي لا يريد التفريط في عمله ، لأنه عنوان الاندماج و مصدر السلط و الرساميل ، فعندما يحال المرء على التقاعد تجده غير راض بالمرة ، في حين أنهم في الضفة الأخرى ينتظرون سن التقاعد على أحر من الجمر ، في حين نكره موعده مغربيا ، هنا يكمن الفرق ، و المقارنة لا تستقيم مع وجود فارق يقاس بالسنوات الضوئية .
8- هل للعمل الجمعوي الخاص بالمتقاعدين دور في إدماجهم وإعادة ثقتهم في المجتمع؟
كما أسلفنا ، فالمتقاعد وفقا للشروط الاجتماعية التي تؤطر حياته ، و وفقا أيضا لانصياغات التقاعد كحياة و كممارسة اجتماعية محلية الصنع ، يبدو لا مندمجا في النسق الاجتماعي ، و بالطبع فكل ممارسة جمعوية بإمكانها أن تعيد الاعتبار لذلك اليومي المتعرض للاختلال ، و بإمكانها أن تساعده على الاندماج و التكيف من جديد في المجتمع .
و بالنظر إلى التغيرات الديموغرافية التي يعرفها المغرب و سيعرفها بقوة في السنوات القادمة ، فهو مطالب بإعداد سياسة مندمجة لفئات المسنين الذين سيغطون مساحة كبرى من الهرم السكاني . هذه السياسة المندمجة يفترض فيها أن تكون مفتوحة على المتقاعدين و همومهم و آمالهم ، و أن تكون مؤطرة برؤى و مقاربات نفس- اجتماعية لا تقوم على الإحسان بقدر ما تقوم على مبدأ الخدمة العمومية و ثقافة الاعتراف و التمكين .
فالعمل الجمعوي لا يمكن أن يكون إلا دعامة جديدة و مساعدا أثيرا يفيد في التكتل و التضامن و التداول في مختلف القضايا التي تؤرق بال المتقاعدين ، كما أنه يفيد جيدا في التأكيد على أن التقاعد لا يعني " الموت الاجتماعي " بقدر ما يعني حياة اجتماعية جديدة لها إمكانياتها و شروطها و أسئلتها الخاصة . و هذا ما ينبغي تفهمه جيدا من قبل الأسر و الإدارة و مختلف مؤسسات المجتمع ، فالتقاعد مرحلة إدارية و اجتماعية تستوجب التقدير و الاعتبار لا التهميش و الهشاشة .