كبوة فارس مغوار
نالت (سلسلة اقرأ ) حظوة كبيرة بين المعلمين منذ سبعينينيات القرن الماضي .ومازال الكثير منهم يكنون لمؤلفها المرحوم أحمد بوكماخ أصدق الاحترام والتقدير ،وإني من الذين ينحون هذا المنحى.
لقد استطاع بوكماخ أن يجذب عقولنا البريئة ،ويغرق وجداننا المرهف في حب البادية ، فأجاد تصويرها وكأنها جنة الفردوس التي وعد الله بها عباده المؤمنين .ولم أكن حينها أصغي لأحد يحدثني عن البؤس والشقاء الذي يحياه القرويون ،حتى للمرحوم أبي الذي عاش صباه في القرية ،ولا لعمتي التي كانت تزورنا مرة كل سنة تحمل معها بعضا مما تجود به الأرض من الزيت و الزيتون والتين المجفف ،فلم تقنعني تجاعيد وجهها الكالح ولا شقوق رجليها الصلبتين على محو ما يترسخ في ذهني من تصورات حول البادية : إني في تلك الفترة أسير مقيد بسلسلة بوكماخ..
حقا إن المرحوم بوكماخ مجيد مبدع في التأليف المدرسي ،وما يؤاخذ عليه خداعه لبراءة الطفولة ،فقد جعلنا نشم من ثنايا مؤلفه عبق النسائم الممزوجة بأريج الزهور،ونسمع زقزقات العصافيرالجميلة،ونمتع أبصارنا بألوان الفراشات الملونة ،ونشرب من حليب بقراتها الدبساء ،ونسرح بخيالنا في المراتع والروابي والحدائق الغناء البهيجة ...
تحول هذا الجمال الزائف إلى كابوس مرعب مخيف لما ساقني القدر إلى العمل معلما بإحدى القرى النائية .أصبت بصدمة كادت ترمي بي في ردهات إحدى المستشفيات العقلية التي لطالما تخرجت منها أفواج من الحمقى يجوبون الشوارع في مجتمع لايرحم المعتوهين أبدا .تبينت آنئذ أن الواقع أصدق إنباء وبيداغوجية من سلسلة بوكماخ .بكيت ،وبكيت ثم سكت واحتملت .وجعلت القرآن العظيم أنيسي في خلوتي ،فوجدته نعم الرفيق .
سكنت كوخا بسيطا من الطوب ،وافترشت فوق أرضه حصيرا متواضعا .بت ليالي كثيرة أطارد الفئران الصغيرة التي كانت تزورني علها تتزود من فتات ما تبقى من فتات مائدتي المتواضعة ،محدثة خشخشة كريهة تجعلني أفقد أعصابي فلا أمل من ملاحقتها حتى أرديها قتيلة ..أكلت خبزا يابسا ،شربت ماء عكرا ،حطمت رقما قياسيا في فتح علب المصبرات .غاصت كثير من أحذيتي في في أوحال الأيام المطيرة ...
أين القيم التي روجها المرحوم بوكماخ في قراءته ! أين الجود والكرم ! أين الفطرة السليمة ،أين الوداعة ،أين التدين ،أين الحشمة ،أين الوقار! ...
لقد علمني الواقع أن البدويين أشد الناس مكرا وخداعا ونزعة إلى الشر من سكان الحضر .فكم من معلم سمموا غذاءه ،وكم من معلم سرقوا متاعه في غيابه ،وكم من معلم حرقوا بيته ،وكم من معلم أفقدوه لب عقله بالسحر والشعوذة لقاء رفضه الزواج من إحدى بناتهم ، وكم من معلم مات حسرة ونكدا لاختياره مهنة التعليم .وكم،وكم...
ماذا فعلت هذه الأم الرحيمة لابنها المعلم ! أو ذاك الأب أو الأخ،أو من يدعي الود لذلكم الشقي سوى أنهم شيعوه إلى محطة المسافرين وذرفوا دموع التماسيح على فراقه ، أو تركوه بعدما صحبوه إلى القرية ،يندب حظه العاثر،ليجد نفسه وقد تنكر له الجميع ، بل لقد عافته حتى حبيبته التي كان يرى في وجهها ملاكا سيملأ عليه حياته أنسا وسعادة ،فلم تفارق مخيلته بضحكاتها في ليال حالكات وهو منكب على تحضير دروسه في ضوء باهت لشمعة ساقها القدر هي الأخرى لتنتحر في خلوة كئيبة مع معلم كئيب ،فيسبح في حلم جميل لا يوقظه منه إلا رائحة شعره المحترق كما تحترق لحظات أيامه الغالية .
رحم الله السيد بوكماخ ،فهو سيد المؤلفين ورائدهم .لكن لكل فارس كبوة ، ولكل عبقري نقيصة .فلو كان يعلم ما سوف يلاقيه تلاميذه النجباء الذين سيختارون مهنة التعليم الابتدائي لتقذف بهم مجانيق وزارة التربية الوطنية في الفيافي والقفار لكان قد طعم سلسلته الذهبية بنصوص تحكي عن عذابات أهل البادية وبؤسهم اليومي .فعلى الأقل سيكون قد هيأهم لأن يكونوا أكثر استعدادا للتكيف مع الحياة البدوية .
أقول للمؤلفين التربويين : توخوا الحذر كل الحذر في اختيار النصوص سواء أكانت من تأليفهم أم من تأليف غيرهم ،تجنبا لتضليل ناشئتنا التي هي في موقع استقبال القيم الموجودة في الكتاب المدرسي مع عجزها التام عن أي نقد واقعي ،لأنها ببساطة لم تنضج بعد قدراتها العقلية .
أقول لهم التزموا هذه المبادئ الثلاث في التأليف : الصدق ، الصراحة ، الواقعية . فنحن المدرسون نخوض معركة التربية الوطنية .والوطنية الحقة ترمي إلى خلق كائنات صادقة ،صريحة ، واقعية مع نفسها و مع دينها ووطنها .وما فشل التعليم الآن إلا نتيجة لمثل هذا الاختلال بين الواقع المادي المعيش وبين ما هو مسطر في الكتب المدرسية.
( محمد السبيطري)d8s