من هنا كانت البداية، نظر إلي الأستاذ نظرة ملية، ثم طفق يتأمل في سحنتي البلهاء، و التي تعكس واقع الريف المغربي في مابين أواخر السبعينيات و أوائل الثمانينيات... شعر أكرت أشعث يحكي قصة القحط باختصار، و عينان ذابلتان بهما عمش كثيف، و واد من المخاط يندلق من المنخر ليصب في بحر اسمه الفم، حيث يمتزج و البصاق ليشكلا معا كلا يدعى العفن أو إن شئت قل قذارة ؟؟؟
كان الأستاذ على اختلاف الفصول يفتح النوافذ و باب الحجرة لألا يغمى عليه من نسائم الأرجل التي لا يزورها الماء إلا مرات قلائل ....ناهيك عن حالات الغثيان التي كانت تصيبه جراء الفساء المتشكل من خلاصة الفاصولياء و الفول ـ البيصارة ـ ، لكنه مع ذلك كان يعاملنا بلطف و حنان، حتى أن عقابه كان عارضا، شذوذا لا قاعدة ...و إن فعل قرأنا على صفحة وجهه الندم!!!
هذا الأستاذ هو السي العربي الغيلاني وسامحنا الله كنا نلقبه بالمقص، إيــه نعم المقص فقد كنا ساعتئذ نلبس الجلابيب و السراويل الفضفاضة، ولأول مرة نرى إنسانا يلبس سروالا ضيقا و قميصا... فكان شكله شكل المقص!!! و لنحافة جسمه أثر بالغ في هذا الوصف...
قلت نظر إلي نظرة ملية، ثم أعاد نظرته المرة تلو الأخرى... نظرات ثاقبة و ذات معنى، لم أكن لأحلل مغزاها آنذاك، المهم أنه استطاع أن يصيبني بنوبة من الارتباك و الخوف معا، و أنا أقول في قرارة نفسي « و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون »
سمعت والدي يرددها كلما أراد الاختباء من أحدهم ـ أصحاب الديون أو أعوان السلطة ـ ، استحضرت آنذاك جميع الدروس و امتداداتها استعدادا لأي سؤال مباغث، إلا أن السيد المقص تجاوز حدود المقرر ليفاجئني ب..!!! ـ الله أعلم ـ
ـ ماذا تعرف عن الاشتراكية؟
ـ تمتم تمتم
ـ حدثنا عن الثورة البولشفية؟
ـ هم تمتمتمتم
ـ .......................................؟
ـ ....................
ـ .................................................. .....؟
ـ .........................
ـ .................................................. ........................؟
ـ ........................................
بدأ يجيب نفسه بنفسه و كأنه كان واثقا من عدم إجابتنا ... ثم صار بعد ذلك موالا يوميا، يدندن به على مسامعنا كلما رأى وجوهنا الشاحبة، فقد كان يصنفنا ضمن الكادحين........
كانت عنده آراء عديدة حول الاشتراكية و أساسياتها، مازالت تلك الكلمات عالقة في ذهني فقد أصبح يحدثنا عن النضال في الحرم الجامعي ـ بصفته فاعلا في اتحاد طلبة المغرب ـ و عن الصراع الدائم مع الإخوانيين ـ الخوانجية ـ فقد كان الرفاق يخوضون معارك دامية بالأسلحة البيضاء مع أصحاب اللحى، أو كما كان يسميهم: الظلاميون ...
هذه المرة تجرأ أحدنا و سأل: ـ كانت سابقة من نوعها ـ
ـ من هم الظلاميون ؟ و ماذا يريدون؟
رد بسرعة:
ـ هم العدو !!! هم العدو !!! هم الذين يقفون حجرة عثراء أمام الحداثة و الحرية و حقوق الإنسان ...
أطرق قليلا ثم استطرد:
ـ هم يريدوننا أن نرجع إلى عصور مضت !!! هم لا يعرفون شيئا عن الحضارة و التقدم و الفكر الحداثي !!!
ومن غير سابق إنذار صاح في و جهنا قائلا :
ـ لا تعيشوا في جلابيب آبائكم ! سكت هنيهة ثم استأنف كلامه:
ـ أيها المناضلون الصغار ! هل تعرفون تشيكي فارا؟
ـ هل تعرفون كارل ماركس؟
ـ هل تعرفون .............؟
ـ هل .................................................. .................................................. .؟
كنا ننظر إليه نظرة الغبي المرعوب، لكنه تجاهل دهشتنا، و أكمل حديثه المطنب عمن كان يسميهم بأهرامات الفكر الشيوعي؟؟؟!!!
كانت كلماته كبيرة بل أكبر مما كنا نتوقع من حيث التركيب و الدلالة ... فأصبح و كأنه يخاطب خشبا مسندة.
فجأة، لمحت أحدهم يطل من نافذة الحجرة : 3 . لم أهتم بالأمر، فقد كان همّي كما هو همّ باقي التلاميذ أن نفهم و لو كلمة مما يقول السي العربي، لعلها تكون لنا نجاة يوم الامتحان،ـ يوم يعز المرء أو يهان ـ كنا نحسبه ...
مازال يلوك ألفاظا و كلمات ضخمة ... تضرب هنا و هناك ...ثم وقع الحدث الأهم. كيف؟
اقتحم القسم رجال أجلاف ، انهالوا على أستاذنا ضربا و ركلا و رفسا حتى سال دمه ...
لم نعد نسمع سوى:
ـ سنريك أيها الكافر ...!!!
ـ سنريك أيها ....!!!
ـ سنريك أيها الخائن !!!
مازالوا يضربون و هو يقاوم و يقول:
حقوقي دم في عروقي لن أنسها و لو أعدموني
كان من بين من كان معهم شيخ القبيلة و رجالا حليقين، فتساءلنا في خوف غامر:
ـ هل هؤلاء هم الظلاميون؟؟؟
ـ هل هؤلاء هم.........؟؟؟
عرفنا بعدها أن لسي العربي أعداء كثر .....
قيل أنه قتل ... قيل أنه اعتقل ... قيل أنه... لكن الأكيد أنه تم تعويضه ...
طبعا يوم جديد، أستاذة جديدة ـ ربيعة البقالي ـ ، ثم فكر جديد ...
قلت نعم، نعم فكر جديد و مختلف ... فقد كانت تحدثنا مرارا و تكرارا عن مواجهاتها المتعددة ضد الرفاق ـ الرفاقجية ـ و تقول عنهم أنهم زنادقة وكفرة ...
أذكر أن أحدهم سألها هل سيدخلون النار ؟
فأجابت بثقة و ارتياح: ـ نعم، إن لم يتوبوا.......
هكذا كان كلامها ... دين في دين في ...
كانت تراقبنا باستمرار و تحثنا على النظافة قائلة أنها من الإيمان...
الإيمان...... التربية ..... الطهارة ... الصلاة ... العدل ... الحكم بما أنزل الله!!! ـ هذا مجمل كلامها ـ
ثم قيل أنها قتلت ...قيل أنها اعتقلت... قيل... لكن الأكيد أنه تم تعويضها .
و كذلك و كذلك ...ظلت المقررات تتغير حسب الفكر السائد، فمن فكر اشتراكوي إلى فكر إسلاموي، إلى فكر رأسمالوي لبيرالوي إلى ما نعيشه الآن من فكر انحلالي يُحترم رغما عن أنوف آبائنا و أجداد أجدادنا.
اليوم وقد كبرنا فمنا السي العربي ... و منا ذ ربيعة ... و منا آخرون أتباع الآخرين.