الفصل الأول : أضواء على المحبة النبوية : المبحث الأول: حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد من الله عز وجل على عباده بنعم شتى من بينها نعمة الحب التي تعتبر أقوى رابطة يمكن أن تربط بين الناس وتؤلف بينهم, فهي " قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون , وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات " (1)
ورغم التعاريف الكثيرة التي قيلت عن المحبة قديما وحديثا فان الدارسين لم يستطيعوا آن يحددوا لها تعريفا دقيقا لأنها كما قال أبو جعفر الطحاوي –رحمه الله – "لا تحد بحد أوضح منها فالحدود لاتزيدها إلا خفاء وهذه الأشياء الواضحة لاتحتاج إلى تحديد كالماء والهواء والتراب ونحو ذلك " (2)
أو كما قال ابن الجوزية – رحمه الله- "حدها وجودها ولا توصف المحبة بوصف اظهر من المحبة " (3).
ولذلك دارت تعريفات العلماء لها على ستة أمور: أسبابها , موجباتها , علاماتها , شواهدها , ثمراتها وأحكامها .وقبل الوقوف على آراء بعض العلماء نفتح قواميسنا لنتعرف أولا على المعنى اللغوي لهذا اللفظ الذي صنف في خانة المشترك اللفظي .
.................................................
1-" المواهب اللدنية بالمنح المحمدية "للقسطلاني 2/117
2-"شرح العقيدة الطحاوية " ص.165
3-" مدارج السالكين بين منازل (إياك نعبد وإياك نستعين )" 3/9 أ- المعنى اللغوي:
الحب نقيض البغض يقال أحبه فهو محب ومحبوب .والحب أيضا الوداد والمحبة .وتدور هذه المادة في اللغة على خمسة أشياء:
أولا : الصفاء والبياض ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان .وسميت المحبة بذلك لما يستلزم قلب المحب من الصفاء والنضارة .
ثانيا :العلو والظهور ومنه حبب الماء وحبابه : وهوما يعلوه عند المطر الشديد لان القلب يغلي ويهتاج ويطفو عليه مثل الحباب إلى من يحبه .
ثالثا: اللزوم والثبات ومنه حب البعير وأحب: إذا برك ولم يقدر على القيام لان المحب لا يبرح بقلبه عن ذكر المحبوب بعد أن وقع في المحبة.
رابعا: اللب ومنه حبة القلب وهي العلقة السوداء التي تكون داخل القلب فاخذ اسمه من محله وهو سويداء القلب .
خامسا: الحفظ والإمساك ومنه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه.قيل الحب الجرة الضخمة .(1)
ب-المعنى الاصطلاحي:
كثرت تعريفات العلماء للمحبة وتعددت حتى أحصاها ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في ثلاثين تعريفا عرضها ونقضها وبين خطأ بعضا.واكتفي هنا بذكر هذين النموذجين :
× قيل " المحبة هي موافقة الحبيب في المشهد والمغيب " (2)
فقد تجاوز هذا القول تعريف المحبة بمجرد الميل أو الإيثار ووضع شرط الموافقة الذي يجعل المحبة صادقة وصحيحة وغير معلولة.
× وقيل "المحبة أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب " (3)
وهذا مقتضى المحبة وكمالها إذ يجب أن يتربع المحبوب بمفرده دون أن يزاحمه غيره وهذه لاينطبق إلا على محبة الله تعالى .
..................................................
1- انظر "مدارج السالكين"3/10ومابعدها – "لسان العرب "2/742ومابعدها – "تاج العروس"2/212ومابعدها – " الحب والمحبة الإلهية " 1/334ومابعدها
2- "مدارج السالكين "3/11
3- المصدر السابق " 3/13
ج -المحبة وذات لله تعالى بين النفي والإثبات :
اعتبر جمهور المتكلمين المحبة نوعا من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات وانه ل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته , وبناء على ذلك فسروا محبة الله بمحبة طاعته وخدمته أو محبة ثوابه وإحسانه .(1)
وقد رد ابن قيم الجوزية على هؤلاء المنكرين بقوله بأن من أنكر المحبة فقد أنكر خاصة الخلق والغاية التي وجد لأجلها .إذ الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشا عن المحبة ولأجلها , وهي الحق الذي به وله خلقت السماوات والأرض والدنيا والآخرة .قال الله تعالى:﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾(2)كما أن القران الكريم والسنة النبوية الشريفة تزخران بذكر من يحبهم الله من عباده المؤمنين وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم .
فلو بطلت المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله .فالمحبة حقيقة العبودية ومنكرها ومعطلها من القلوب معطل لذلك كله.(3)
فالحب إذن ليس هو الإرادة بل هو صفة أخرى غيرها, إذ كيف نسوي بين صفتين لم يجعل الله إحداهما عين الأخرى ؟!كيف نسوي بين المحبة والإرادة والله تعالى يقول ﴿قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة﴾(4) وقوله سبحانه ﴿إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئا ﴾(5) أو يمكن أن نضع الحب مكان الإرادة في هذه الآيات (6)
................................................
1- انظر " تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان " للنيسابوري 2/101
2- سورة الحجر من الآية 85.
3- انظر " مدارج السالكين " 3/18الى 27.وانظر "روضة المحبين " ص.59وكلاهما لابن قيم الجوزية .
4- سورة الأحزاب من الآية 17
5- سورة يس من الآية 23
6- انظر "الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية " لابن هشام للإمام السهيلي 4/284الى286
أما العارفون فيقولون :إنا نحب الله لذاته لا لغرض آخر فإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه , والرجل الشجاع لقوته وغلبته, والرجل الزاهد لبراءة ساحته من المثالب, فالله تعالى أحق بالمحبة لان كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص , والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه (1).
د- ألقاب المحبة :
أطلق الباحثون على المحبة ألقابا وأسماء كثيرة أحصاها ابن قيم الجوزية في حوالي ستين اسما , تتبعها بالشرح والتعليق فتبين له أن بعضها ليس من أسماء المحبة بل من أحكامها أو لوازمها أو ثمارها كالاستكانة والأرق والسهد والكمد وغيرها .
وحتى لا يأخذنا الحديث بعيدا عن محور البحث فقد آثرت الوقوف وقفات قصيرة أمام الألقاب التي اتفق الدارسون على اعتبارها من أسماء المحبة كالهوى والشغف والود والعشق ثم الخلة . فالهوى :من فعل هوى يهوي هوى ومعناه "ميل النفس إلى الشئ "(2)أو " ميل القلب وسرعة تقلبه لأجل المحبة"(3) وأكثر ما يستعمل الهوى في الحب المذموم قال الله تعالى ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى﴾(4) .وقد يستعمل في الحب المحمود استعمالا مقيدا . أما الشغف فقد عرفه الجواهري بقوله " الشغاف غلاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب .يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه" (5). أما الود فهو خالص الحب وألطفه وارقه وهومن الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة .(6).
..................................................
ا1-نظر "تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان " للنيسابوري 2/101.
2-"روضة المحبين ونزهة المشتاقين " لابن قيم الجوزية ص.21.
3-"روضة التعريف بالحب الشريف " 1/338.
4-سورة النازعات الآيتان 40-41
5-"روضة المحبين " ص.23.
6-المصدر السابق ص.30.
أما العشق فهو الإفراط في المحبة وقد عد من أمر أسماء المحبة وأخبثها وقل ماولعت به العرب بل هو مرض من أمراض القلب حتى قال بعض السلف " العشق حركة قلب فارغ " وقال ابن قيم الجوزية "العشق شرك في المحبة وفراغ القلب عن الله وتمليك القلب والروح والحب لغيره" (1).ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم لفظ العشق في حديث صحيح البتة وقد ذهب جمهور العلماء إلى منع إطلاق العشق في حقه سبحانه لاتصاف العشق بأمور لا تجوز في حقه تعالى (2)
أما الخلة فخي صفة الخليل وهو مما يستوي فيه المذكر والمؤنث , والخليل هو من يخالك أي يوافقك في خلالك ويسايرك في طريقتك .وقيل الخليل هو المنقطع إلى الله الذي ليس في انقطاعه إليه ومحبته له اختلال.(3)
وقد حاول مجموعة من العلماء الموازنة بين المحبة والخلة فسوى بعضهم بين المقامين وخص آخرون المحبة بالرسول صل الله عليه وسلم والخلة بإبراهيم عليه السلام .
إلا أن أبا جعفر الطحاوي أبطل هذا الادعاء لان الخلة خاصة بهما والمحبة عامة قال صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا من أهل العارض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن "(4).أما المحبة فقد ثبتت لغيره كقوله تعالى﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (5)
..............................................
1--"زاد المعاد في هدي خير العباد " لابن قيم الجوزية 4/276.
2-انظر "روضة المحبين " ص.26- " زاد المعاد" ج.4
3-انظر " نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض " لأحمد شهاب الدين الخفاجي 2/350.
4- رواه مسلم في صحيحه 4/1855كتاب "فضائل الصحابة " باب – من فضائل أبي بكر رضي الله عنه - .
*أما الحديث الذي رواه الترمذي ( إن إبراهيم خليل الله ألا وأنا حبيب الله ولافخر) فلم يثبت .
5- سورة البقرة من الآية222.