نظام و برتقال و حشيش...
**إهداء لكل من سأل يوما عن غيبة الجيلالي..وعذرا عن الإطالة**
مر هذا المساء برتقاليا بكل المقاييس . شمسه المختنقة بسلسلة من الغيوم الشفافة أضفت على السماء لونا برتقاليا بهيا.. عارفي الدوار أجمعوا أنها تنذر بمطر مفاجئ و ريح شرقية عاتية ، شيخ الدوار بعمامته القريبة من لون السماء اعتلى مئذنة المسجد المقام على مقبرة تلفظ أمواتها كلما أمطرت و حذر الجماعة عبر مكبر صوت ينبعث منه صفير و شخير و صرير من مغبة زرع نبتة الكيف هذه السنة أو التطاول على الأملاك الغابوية بالاجتثات و الاستحواذ و قال بالحرف : ( وااااالجماعة.. راه ما تسمعوا غير خبار الخير ... كيف ما كتعرفو القانون راه كيحرم الزراعة د الكيف ... و هاذ المصيبة راها كتضر بالصحة د الانسان ..و كتهلك التربة.. و كتفسد الأخلاق ..و كتسبب فالجرائم بين الجيران و الخوت ... و المخزن راه كيوصيكوم ..و يحذركوم.. و كيكوليكوم أطونسيون ما يعميكومش الربح و الطمع ... وااااااااا الجماعة ...راه اللي زرع الكيف هاذ العام ما يلوم غير راسو ...." و ما إن أنهى إنذاره الصبياني حتى تفرق القوم متأبطين المعاول و المجارف صوب ما تبقى من غابة تعود أيام عزها لفترة ما قبل الاستقلال عازمين اقتلاع آخر شجيراتها منصاعين في غير اكثرات لفقرهم و جشعهم و جهلهم.. معرضين عن تحذيرات القيادة و العمالة و العاصمة ...
أجواء رتيبة كئيبة شجعت الجيلالي على التوجه إلى حيث "عراصي" و جنان " شيخ الدوار " أراضي اقتطعها اقتطاعا من شبح غابة لم يتبق من ذكراها غير لافتات قديمة تحذر من قنص و حشيش الغابة . تذوق الجيلالي من كل تماره البرية غير أنه أبدع في استهلاك البرتقال حتى باتت معدته شبيهة ببرميل خشبي لعصيره . قشر خمسا و امتص رحيق سبع و افترس تسعا مقلدا أحد تلاميذه غير المؤدبين...
البرتقال فاكهة الله و الأشجار أينعتها أرض الله و لم يعد أحد يلتفت لمغروساتها و حوامضها...و القنب الهندي صار آخر صيحات الفلاحة، أما البرتقال فلقد صار وقفا من غير نية للنحل و النمل و لعابري السبيل و حتى لمحترفي حمل النبتة الخبيثة برا بين الأحواش و الأدغال ...
مساء اليوم مر كأنه برتقالة ضخمة احتوت حنين " الجيلالي " لشقاوة الصبا و طزاجة المراهقة . استلقى على ظهره كسلحفاة.. تطلع لحمرة السماء الفاتحة و تأكد بكل أحاسيسه المأزومة أنه يوم برتقالي بكل ما في الكلمة من عصير.. غصة حسرة و ألم اكتسحت نفسه المواطنة و هو يهمهم صامتا : سبحان الله الجميع هذه السنة غرس نبتة الكيف الفلاحة و اللي ماشي فلاحة . كل من يملك شبر أرض و حتى من لا يملك أرضا.. المقدم.. الشيخ.. الفقيه.. أعوان السلطة .. اللي بعقلو.. الحومق ، المعاقين ، المتقاعدين ، الأرامل ، المطلقات ، الأمهات العازبات ، الشبان بل و حتى الأطفال والرضع الخدج المحاجير..
خوارق النبتة العجيبة باتت موضوعا على كل لسان " ستيتو" غرسها السنة الماضية فاقتنى بثمن غلتها سيارة من نوع ميرسديس 207 ".. الشحيمي " غرسها هو الآخر فأصبح تردده على حامة مولاي يعقوب و ارتياده لأشهر أطباء و عيادات فاس قصد الاستشفاء من أمراض موميائية تعود للحقب الغابرة أشبه بتجوله قرب عتبة داره و هو من كان يخطط دهرا لزيارة الحامة.. و يتوق عقدا لقصد طبيب العظام و المفاصل.. " قنينو " بصدد إتمام الطابق الثاني من منزله النابت وسط الجبال و الصخور بالأجور و الحديد والإسمنت المسلح وهو من أمضى خمسة عقود متهربا من الضرائب والإحصاء داخل كوخ طيني متواضع..الفقهاء يعرضون عن التعرض لموضوع حلية أوحرمة " الكيف" في خطبهم لحساسية الموضوع و لكون النبتة عادة ما تكون من ضمن عطايا شرطهم و أجرهم ...أعوان وممتلي السلطة البارزين يقايضون صمتهم و تغاضيهم زيتا و عسلا و مقابلا ماديا معلوما كأنه ضريبة غير مباشرة.. بوغابة أو التقني الغابوي يتصرف في ملك الدولة كالساعي إلى الهيجا من غير سروال.. .يقال أنه يبيع القطع الأرضية وكأنه يبيع قطع شكولاتة جلبتها له عمته من استوكهولم...
أهل الدوار تحولوا لأكاديميين و خبراء في أسرار النبتة و خبروا أنواعها و أشكالها و ما يعوزها و ما يلزمها و ما يفصله المدمنون و " الحرايفية " منها...
أباطرة التخصص خربوا الاقتصاد و ألهبوا الأسعار في العقارات بالمدن المتاخمة.. فأينما حلت النبتة الخبيثة و ارتحلت إلا وجلبت معها كل أشكال الإجرام و الفساد ..
همهم الجيلالي متحسرا:" تجارة الكيف تثبيط للهمم..خراب للعقول.. تلويث للبيئة والذمم .. إفساد للوطن و للاقتصاد و للصحة العامة ..."
اتكأ على جنبه الأيمن ،تذكر جريدة قبل البارحة المدسوسة في جيب معطفه أخرجها بعد عناء و عاد من جديد ليستلقي على ظهره حتى يتمكن من تصفح مقالاتها الهجينة ..
ارتعدت الجريدة بين أنامله كما أصدر العصير المتراكم بمعدته حركة شبيهة بصوت صب المياه وهو يجحظ بعينيه في بيان كاذب أسهمت في رفعه لوكالة الأنباء العجيبة كل من القيادات والعمالة والتقارير الكاذبة المغلوطة عنوانه""إتلاف 2700هكتار من القنب الهندي""ومفاده "تم إتلاف 2705.8 هكتارات من مزارع القنب الهندي بعمالة تاونات التي تقدر ب 2900.12 هكتار خلال المرحلة الأولى من الحملة التي خاضتها السلطات العموميةالمختصة بالنطاق الشمالي لإقليم تاونات-إي منطقة عمله-في الفترة ما بين 9 ماي و 11 يوليوز الماضيين-وهي فترة عمل تواجد خلالها الجيلالي بمقر عمله والذي يستدعي الوصول إليه ولغريب الصدف المرور عبر مجموعات وفرعيات مدرسية شمالية كثيرة-وحسب حصيلة هذه العمليةالتي تندرج في إطار برنامج مكافحة زراعةالقنب الهندي بإقليم تاونات برسم سنة 2008 تم إتلاف 2255.22 كتارا من الملك الخاص-كذب-و 179.64 هكتارات من الملك المائي –بهتان-و172.65 هكتارا من الملك الغابوي – محض ادعاء-و98.30 هكتارا من أراضي الأحباس –والله **** الي ما يحشم...
"نبتة الكيف يفوق طولها طولي ويعلو امتدادها عن امتداد نبتة الذرة وعباد الشمس ورائحتها تعبق أجواء الدواوير نيئة وسطوح المنازل يابسة ومحيط المقاهي ملتهبة ...والدوار يعيش على وقع دق وتطبيل يومي لاستخلاص شتى الأصناف من النبثة الخبيثة..و*البزنازة*يتوافدون على الدوار في مشهد يشبه توافد السياح على معلمة اثرية تاريخية.أما الدرك وما أدراك ما بعض الدرك الأسفل فلقد برعوا في ابتزاز محترفي النبتة وعقد صفقات دنيئة مع ناقليها بندها الوحيد التواطؤ والتغاضي عن مرور شحن منها مقابل مبالغ مالية يسيل لها اللعاب والكرامة والمروءة والمواطنة...
واصل الجيلالي تأملاته متحسرا :أنا الجيلالي معلم أبناء هذا الوطن لم أنل من اندفاعي وتحذيري وفتاوي وأحاديثي الغارقة في التحريم ولعن الغارس والجاني والبائع والناقل غير الصد والحقد والتهديد والتحامل ..كرامتي التعليمية تكاد تهدر أمام هذا التواطؤ المعلن الذي حاكه ضدي كل هؤلاء الفلاحين وربات البيوت والأعيان والمنتخبين .والأدهى والأخطر تجار النبتة الكبار ومدمونها المحليين ...وأنا الآن حائر بين أمرين إما الإصرار والفرار وإما التراجع وحصد المغانم...
مجاز الدوار الوحيد -ّأخبرني وقت كنا صديقين وقبل ّأن يقتحم أدغال هذه التجارة-أن أباه الذي لم يسبق ليديه أن لمستا مبلغ ألف درهم صار له منطق وتصور مختلف عن المال بل وصار يميز بين المليون ويثوق للمليار ويعد بين أصابعه عشرات الملايين ..فاهمي الدوار يستدلون على خطأ أحاديثي المثبتة والمتفق على صحتها متنا وسندا بمقولة//كل نبتة خبيثة فيها حكمة ثابتة//...
عاد الجيلالي ليعبث قليلا بقشور البرتقال المنتشرة حواليه ..تأمل لونها الفاتح وقربها من أنفه لينتشي برائحتها ..وبحركة لا إرادية استرسل في دعكها بتوحيمته فاكتست لونا قرمزيا مثيرا أصاب عينيه بحول وخده بانتفاخ مفتعلين وهو يجاهد ليتطلع إلى الشكل الذي ألفت توحيمته اتخاذه كلما دعكها بقشور البرتقال أو بقشور الجزر منذ أن اكتشف هذه الظاهرة وهو تلميذ صغير عند معلمته الشهيرة محجوبة ..
عاد لاتزانه وحسرته وتمتم مع نفسه مصرا :أنا الجيلالي معلم ابناء هذا الدوار قررت أن اراهن على هذا الجيل الذي بين يدي ما دام التحامل والتواطؤ لم ينل من مشاعره بعد ...قررت أن أدع النبتة وشأنها وأن أترك الحكومة وشأنها وأن أبتعد عن طريق كل الجاثمين الحائمين حول فلك نبتة الكيف اللعينة ..قررت ان أدع كل هؤلاء وشأنهم وأن أتجند لإقناع تلاميذي بجدوى غرس شجر البرتقال ومنافع البرتقال وقشور البرتقال..
امتص رحيق آخر برتقالة وعاد ليطالع باقي القصاصات والبيانات وكل المقالات الغارقة في التهليل والتطبيل لإنجازات وهمية لحكومة وهنة...
والشمس تكاد تغيب بيت فجاج جبال الريف كبرتقالة كبيرة غابت بين تنايا أمعاء وضلوع الجيلالي الملتصقة ببعضها البعض قصد المسكين مترنحا كمدا مسكنه/القسم ..هيأ بخبرة معهودة ومراس طويل كأس شاي منسم بنعناع وتجهم وهو يتذكر تسمية النبثة الخبيثة بنعناع الشمال ..اقتعد مكتبه المتواضع وأمسك بين يديه رزمة من صفحات تحرير تلاميذه قصد تصحيحها...وضع قلمه الأخضر جانبا ..لبس منامته الخضراء..تأمل عبر شرفة قسمه/المسكن غابة الدوار التي غطت نبتة الكيف جل مساحتها ..فعادت توحيمته لتكتسي لونا قرمزيا داكنا وهو يستحضر غاضبا معطيات البيان الرسمي الكاذب ودون أن يدعكها بشيء غير حرقة معاينة اغتصاب غابة الوطن ....