نحت على جدارية الوطن

[الحسين نوحي]

تفضل معنا" هكذا خاطبه المفتش و من دون مقدمات, اندهش الجيلالي من كثرة العسكر المرافق له, وظن أن في الأمر سوء فهم أو مجرد خلط في الأسماء و إلا فما تفسير كل هذه الإجراءات المتخذة أثناء اعتقاله.تساءل و الدهشة بادية على محياه"يمكن أن أعرف إلى أين يا حضرة المفتش وما سبب هذا الاعتقال؟ أجاب المفتش في شيء من الضيق ستعرف كل شيء هناك المهم أن تبدي نوعا من المرونة و إلا سنضطر إلى تقييدك بالسلاسل.
يا إلهي أي كابوس هذا الذي تسلط علي في واضحة النهار؟ أيكون هذا بسبب القميص الذي استخرجته من دولاب المرحوم؟ لقد أحكمت أمي إغلاقه منذ الحادث المروع و أذكر كلماتها و كأني أسمعها للتو و آثار التفجع قد تورمت على خذيها قائلة " توأمك لم يمت! روحه مازلت تحلق بين جنبي مازلت أتحسس نسمات زفيره, إياك أن تلمس شيئا يخصه".
"سيجارة يا جيلالي" هكذا قطع عليه المفتش حبل تفكيره عليه فمن مصلحته أن يبقى الجيلالي مشتت الذهن حتى يقع فريسة لأسئلته المتكررة.أجاب في ضيق "لا شكرا لم أدخن منذ زمن, لكن لا بأس بواحدة مادام الأمر يستحق."
ـ كن على يقين أن التحقيق سيمر عاديا و لن تأخذ قضيتك طابع الاستثناء رغم أنها غير طبيعية.
كان الطريق طويلا و زجاج السيارة الأسود يمنع النظر من و إلى الداخل,و ضباب الفجر يزيد الأمر غموضا.
تفضل اعتبر البيت بيتك سنقوم بواجب الضيافة تجاهك, لكن بعد أن تجيب على بعض الأسئلة و أنصحك بالتعاون معنا لأن في مثل هذه القضايا يكون مصير المتهم بيديه و تظل جميع الاحتمالات قائمة بما فيها اغتيالك ودفن السر معك إلى الأبد.
حسنا و ما المطلوب مني إذن؟
ــ لا شيء سوى أن تجيب بتفصيل عن كل ما تعرفه؟
حضرة المفتش أظن أن في الأمر سوء فهم وأنت لم تعطني فرصة للاستيضاح.
ــ نحن لا نخطئ, حساباتنا دقيقة ومبنية على معطيات مفصلة و إن شئت أطلعتك على تقرير مفصل عن حياتك, حتى الأشياء التي لا تعرفها عن نفسك وعن الذين يحيطون بك؟
ـ أنا الجيلالي حاصل على دكتوراه في علوم الزراعة, وحاليا أقوم ببحث حول النباتات الإشعاعية.
حسنا أنت الآن في بداية الطريق كل ما عليك الآن هو كتابة تقرير كامل عن هذا البحث و عن أفقه المستقبلية و عن دوره في صنع أسلحة بيولوجية متطورة وكل ما تحتاجه سيكون تحت إمرتك بشرط أن تتنازل عنه لصالح دكاترة المعهد الزراعي الوطني لأن غير ذلك للأسف سيعرضنا للإحراج أمام الرأي العام و نضطر لتوظيف العديد ممن يعتصمون قرب البرلمان بدعوى أننا ندفن الكفاءات..
ــ حسنا لكن أريد الاتصال بوالدتي لطمأنتها أولا و ثانيا لأخبرها بمكان تواجدي حتى أضمن أني سأخرج حيا من هنا.
ابتسم المفتش في خبث ثم ناوله السماعة قائلا " تتمتع بشيء من الذكاء و أتمنى أن يسعفك حتى آخر لحظة.
ما إن وضع السماعة حتى أخذه الحرس إلى جناح عريض يؤدي إليه باب واحد مكون من مطبخ و حمام وصالة للجلوس يتوسطها سرير حديدي ذكره بالسرير الذي توفي عليه شقيقه المعطي في اليوم الثاني بعد الحادث.اندفع نحوه في مشية متعثرة مخاطبا نفسه" أيعني هذا أنني لن أخرج من هنا حيا, المهم أني سأقوم بشيء يخدم بلدي ولو قدر له أن ينسب إلى اسم مجهول غيري ثم تنهد عميقا و قال في نفسه ليكن ما الله مريده ثم أطلق العنان لذاكرته من جديد.
أمي أريد أن أخبرك بشيء لقد قررت أن أبيع الأرض لأني قررت السفر إلى الخارج أريد استكمال دراستي هناك, سأذهب إلى تركيا و سيتكفل بعض معارفي بتهريبي إلى اليونان و من هناك إلى تراب أوروبا سأثبت قدراتي هناك و أعود بشهادة كبيرة.
احمر وجه الأم وانتفخت أوداجها قائلة " إياك أن تفكر بالأمر حتى! فالأرض ليست ملكا لك وحدك. أتناسيت أبناء شقيقك اليتامى ألم تفكر في مستقبلهم لا أب و لا أم يرحمهم دع لهم الأرض على الأقل كشيء يثبت انتماءهم إلينا.
لكن يا أمي كما تعلمين توالت سنوات الجفاف و أصبحت الأرض كصندوق بنك مفلس؟
ـ يا بني أعلم أن الزمن قد تغير و أن مستوى العلم عندنا تحسن فأصبح ما يدرس هناك يدرس هنا فالأمر سيان.
ــ صحيح ما ذكرت لكن الشهادة هناك ليست كالشهادة الوطنية فكل الشخصيات تقريبا متخرجة من هناك.مثلا المكناسي جارنا القديم تخرج من كلية الاقتصاد في فرنسا فأصبح الآن متصرفا نافذا في وزارة المالية و ذاك وذاك و الأمثلة كثيرة. أما أمثالي فأنت تتخطين يوميا دمائهم المضرجة في الشوارع.
الرزق بيد الله كن واثقا من نفسك و صل رحمك بأجدادك بالحفاظ على إرثك, و أنت في الأخير تحتاج إلى مختبر ميداني للقيام بأبحاثك فمن حسن حظك أن الأرض بحوزتك فاذهب و استنشق من عبيرها وستعلم أني لم أتجاوز الصدق في نصحي لك يا فلذة كبدي.
الأرض حزينة و الغروب يضفي عليها مسحة من البؤس مادامت السماء قد دخلت في قطيعة معها منذ سنوات.
قطع حبل استرجاعه وقع أقدام ثقيلة, أصاخ السمع مسترقا بعض النظرات من ثقوب الباب فإذا بضحية أخرى يفتح لها الجناح المقابل. أهي حرب استنزاف لأفكار أبناء هذا الوطن؟
عاد إلى المكتب و راح في شروده من جديد يسترجع شريط ذكرياته مع الأرض.
هنا كان يجلس أبي رحمة الله عليه, كان ينظر إلى السنابل التي تعانق الأفق و يبتسم في رضى و يقبل راحة يده وظهرها قائلا اللهم ارحم السلف واجعل البركة في الخلف. ترحم عليه بصوت مهموس ثم رفع عينيه نحو يباب مجد التربة التليد,وفجأة نبثث له من الأرض فتاة بلغت من الحسن آية في الجمال, نور القمر على وجهها, وإشراقة الشمس تنبعث من محياها و عطر الربيع ينبعث من أنفاسها, تتبختر إليه في مشية متعثرة وكأنها تمشي لأول مرة, حك عينيه من هول المفاجأة قائلا في استغراب من أنت؟
أنا امرأة ألا ترى ما علي من زينة النساء؟ أليست أوصافي كاملة أمازال ينقص في خلقي ما يجعلني بعيدة عن الشبه بامرأة.
لا بل أنت أكمل النساء و أجملهم لكن غريب أن تنبث من الأرض امرأة. لم أقرأ عن هذا ولم أسمع عنه حتى في أغرب الحكايات؟ كنت كالنبتة حين خروجك من رحم الأرض.
لا تندهش جئت أونس وحدتك و أكون سببا معقولا لبقائك على عرش هذه الأرض, لطالما كنت برفقة أجدادك وهم يحملون السلاح مع النعوش على أكتافهم و أرواحهم بين أيديهم وما إن يبلغ الحلم صبي منهم إلا وعلموه الضغط على الزناد, بينما راح البعض يرسل بأبنائه إلى بلدان المستعمرين, ليأتوا بعلم يسرقون به بلدا يحاول الخروج إلى العصر من عنق الزجاجة.
أخذها في حضنه ولما هم بتقبيلها طرق المفتش الباب قائلا لقد مضى شهر وأنت هنا, أرني همتك إذن إن كنت متحمسا للإنعتاق. مد إليه الجيلالي ملفا برتقاليا من مائة صفحة و يداه ترتعش من شدة التوثر.
ـ قال المفتش بنشوة أحسنت صنعا يا الجيلالي ومن حسن حظك أنه صدر الإذن بالسماح لك بالسفر إلى الخارج, أليس هذا الذي كنت تتمناه؟
السفر ومن قال أني أريد السفر لن أسافر لدي ما يجعلني مرتبطا بهذه الأرض.
ـ من؟
ـ لن تصدق أو بالأحرى لن تفهم.
ـ المهم أن قرار إبعادك من هنا قد صدر و أصبحت بدون فائدة بعد أن ملأت هذا الملف بعصارة فكرك.
ـ النفي ؟
ـ نفي اضطراري وربما ستعود في مصالحة ثانية ربما قد يطول أمدها.
ـ لا لن أرحل.
ـ الجيلالي "بسم الله عليك أولدي الخير أو السلام"
ـ آه يا أمي الحمد لله أنك أنقذتني من كابوس مرعب.
ـ قم فالإفطار جاهز أنا ذاهبة إلى المدرسة فأنت تعرف مسؤوليات المديرة. آه لقد نسيت هناك استدعاء لك على الطاولة.
نهض من فراشه متثاقلا غسل أطرافه ثم تمضمض في سرعة خاطفة, فتح الورقة فوجد مكتوبا عليها:.
عليكم المثول أمام الشرطة بمجرد حصولكم على هذا الإشعار.
فغر فمه من الدهشة وصرخ قائلا " لن أرحل"

[احمد امين المغربي]

الارتباط بالأرض وقيم أخرى تؤثت لنص حابل بالدلالات....
الوطن عملة صعبة ....
بوركت ايها النوحي المتألق.

[الحسين نوحي]

اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة احمد امين المغربي الارتباط بالأرض وقيم أخرى تؤثت لنص حابل بالدلالات.... الوطن عملة صعبة .... بوركت ايها النوحي المتألق.

الأستاذ و الأخ المبدع أحمد أمين مرورك من هنا تشريف لصفحتي و كلماتك تسطع صفاء بصفاء سريرتك أيها النقي.
فعلا الوطن عملة صعبة لكن مهما صعبت لن نركب البحر لنتركه مستنقعا للطفيليات الضارة.
لك ما يحمله الجنوب من عبير الوروود.
الحسين نوحي

[tijani]

الاستاذ النوحي ، ودعني أناديك به فأنت تستحقه عن جدارة
قصة ممتعة جدا ..مشوقة ..معبرة
افكار كثيرة نثرتها سيدي الفاضل بين ثنايا النص : طبيعة معاملة اهل الحال للناس ..الحلم بمغادرة الوطن ..التشبث بالارض ..استكمال العلم بالخارج أما هنا راه ما كاين والو ..الارتماء على اختراعات ونتائج الاخرين لنسبتها اليهم ظلما وعدوانا ..التهجير القسري لحاجة في نفس يعقوب..
هذا فضلا عن لقطتين فنيتين جميلتين أعطتا للنص نكهة التشويق :
* نقطة الفلاش باك ..واستعادة الصور والاحداث الماضية
* النهاية التي كانت عبارة عن حلم ..لكن حلما قد يتحقق بتلك الرسالة اللعينة ..بطلك أسيدي راه شريف من الشرفة ههههههههه
هذا السيناريو سبق لي التفرج عليه في فيلم أجنبي .حلم البطل بغزو كاسح من زوار جاؤوا من الفضاء ..كانوا يقتلون بلا حساب ، فلما استيقظ من نومه فزعا ..تناهت إليه الاخبار انه حدث غزو من طرف زوار الفضاء .
على ذكر زوار الفضاء ، لي قصة بنفس الاسم سأنشرها قريبا.

مودتي

[mahdar]

نص رائع يتضمن عددا من المفارقات ..هناك عدة اشارات يجمع بينها خيط رابط..هناك حب الارض ..تهميش الكفاءات الذهنية ..سرقة افكار الاخر..التهجير القسري..كل هذا تناولته باسلوب شيق جمع بين السرد المباشر ووطريقة الاسترجاع والاستعادة..لا اخفيك ان نصوصك تحمل دئما الجديد وتسعى الى التجديد على مستوى المعنى والمبنى