بعد أن حصد المستفيدون خيرات المغادرة الطوعية و بعد التسونامي الذي خلفته هده العملية في الميزانية فكرت الوزارة في الاستغناء عن ما تعتبره يدا عاملة و الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في مجال التعليم أسوة بباقي القطاعات، و تقرر إغلاق و إلغاء كل المناصب المالية و تمتيع كل المدرسين برخص طويلة الأمد حيث يتم تعويض المعلم بالرجل الآلي للقيام بمهامه مع نحث صورة طبق الأصل من كل معلم مصادق عليها من طرف وزارة التربية الوطنية ووضعها قرب المكتب ، فوق كرسي يتم تحريكه آليا بين الفينة و الأخرى وخاصة عندما يكثر الضجيج داخل الفصل الدراسي و يصعب على رجل التعليم الجد يد التحكم فيه.
لهذا الغرض استدعى الوزيران معلمين لحضور اجتماع طارئ ومستعجل. وقال شهود عيان أنهم شاهدوا المعلمان المستدعيان إلى المقر يهرولان و يتساءلان عن سبب الاستعجال في استدعائهما إلى المكان. لكن بعد وصولهما وجدا نفسيهما وحيدين ينتظران. ولتخفيف مرارة الانتظار ضلا يتحدثان و يحكيان عن متاعب الطريق وعن المسافة التي قطعاها بين المسالك الوعرة و الوديان للحضور ليلا إلى مدينة العرفان.
و لسوء حظهما طال الانتظار وجرهما الحديث إلى ما لا يحمد عقباه حيث بدءا يتذكران و يحكيان لبعضهما عن تجاربهما المريرة مع العمل , الإنتضار و الحرمان و تذكرا كل لحظة قضياها في فرعيات بعيدة, اقرب نقطة "حضارية" مجاورة تزيد مسافتها عن المائة كيلومتر,و شبه الأقسام التي يكدون فيها جاهدين لمحاربة الأمية، وإدارات "تربوية" مليئات بمذكرات متشابهات ،تلبسن أزياء مختلفة حسب المناسبات .
بعد أربع ساعات من الانتظار,حسب نفس المصدر, شوهد الوزيران ليلا بعد خروجهما من سيارتين فاخرتين من آخر الطراز والألوان يتقدمان بخطى, تبدو ثابتة, إلى قبة البرلمان حيث الراحة و الآمان, وفي طريقهما إلى بر الآمان والدي يبعد فقط ببعض الأمتار ظلا بدورهما يتجاذبان أطراف الحديث و يتحدثان عن أيام الراحة ,اللهو و الآكل و الشرب حتى الآذنان.
لم يكلف الوزيران نفسيهما عناء مصافحة المعلمان أو حتى سؤالهما عن أحوال الطريق و الفصل و الغلمان ..... , فمباشرة بعد رؤيته وجوههما المتعبة أمرهما صاحب فكرة الاجتماع الليلي بالدخول إلى المبنى الضخم المهيب. فتبعا المعلمان الوزيران بدون أدنى فكرة عن سبب الاستدعاء و الهرولة و الاستعجال، و رجليهما النحيلتين ،اللتان لم تآلفا المشي,كما يبدو, داخل البنايات العالية, ذات الأرض المفروشة بأغلى أنواع الآفرشة، والمزينة بالرخام وأخر موديلات المكيفات و المصابيح, ترتجفان, فتارة يسقطان أرضا وتارة يتمايلان.
وبعد دقائق من المشي داخل البناية وصل الأربعة أخيرا إلى قاعة الاجتماع وقبل أن يأذن لهما الوزير بالجلوس لخص لهما مضمون فكرته في دقيقتين و التي أطلق عليها اسم "المعلم الفزاعة" و أمرهما بإخبار من لم يحضر هذا الاجتماع. لكن من هول الصدمة، لم يستطع المعلمان التفوه و لو بكلمة، فظلا يتبادلان النظرات و كل منهما يستعيد في خياله أول يوم التحق فيه بمقر عمله وصور الدواوير و المداشير التي عمل بها لسنوات تمر أمام عينيه كما في الأفلام، و يتذكر أحلامه التي تشبه وجوه تلاميدته الصغيرة و البريئة، و يفكر كيف سيصبح حاله وحال أبنائه و عائلته و كيف سيصبح المجتمع بدونه ومن دون من كدوا و كادوا أن يصبحوا رسلا.
بعد بضع ثوان حاول أحدهما التسلح بالصبر و التغلب على حالته النفسية و أخبر بدوره الوزير بأن المعلمين لن يتخلوا عن مهنتهم الشريفة رغم متاعبها, و دعاه إلى عدم الاستعجال والتشاور و إعادة النظر في هدا القرار ، لكنه رفض الاستماع إلى 'تفاهاته' قائلا أنه مستعجل خاصة بعد أن رن هاتفه النقال و رد على المكالمة بصوت حنون و دافئ حتى اعتقد المعلمين أن الشخص أبوه أو أمه أو هما معا.
لم يكمل الوزير مكالمته حتى رن هاتف الوزيرة و بدأت هي كدالك تتحدث إلى شخص اعتقده المعلمان أحد أقاربها العزيز إلى قلبها.
سئم المعلمان، فالحديث يطول على الهاتف و يطول معه الانتظار. و بعد انتهاء المكالمات الهاتفية ، التي دامت حصة دراسية حسب ساعات المدرسين، و بدون اعتذار عن الانتظار أخبرهما الوزير كدالك انه حفاظا على مصلحة المتعلمين و رأفة بالمعلمين و نهوضا بأوضاعهم قررت الوزارة تفويتهم للقطاع الخاص إذا كان هناك من يرغب في استخدام هذه التقنية القديمة و بشروط تعاقدية جديدة.
و بعد أن نفد صبر المعلمان بدآ يصرخان في وجه الوزير الذي بدأ يرن هاتفه مرة أخرى و' يخبرانه' أنهما و رفاقهم و إخوانهم وعائلاتهم على الدرب سائرون:
سنحترق و ننير طريق الأجيال القادمة
التعليم أمانة في أعناقنا
لا لخصخصة التعليم
لا لاحتقار مربي الأجيال
لا للتعامل مع المعلمين كدمى و****يز
لا لمسرحيات غيب عنها أبطالها الحقيقيون
لا...لا...لا...
قد تغلقون أبواب المدارس
لكن لن تستطيعوا إغلاق عقول بني البشر
قد تتخلصوا من رجل الرسالة و الأمانة
لكنه سيحتفظ بأمانته
فلنفتح أبواب المنازل، المقاهي والجمعيات...... لتعليم أبنائنا
فمسؤوليتنا أن نحفظ لهم التحصيل المجاني و النافع