في زيارة لمؤسسة ثانوية عمومية أمريكية بمدينة دالاس بولاية تكساس، أتيح لي أن أقف على المستوى الجيد للتجهيزات البيداغوجية والتأثيث العالي الجودة للمؤسسة بنايةً ومرافقَ. كما وقفت في اجتماع مناقشة على حيوية التلاميذ وعلاقة الأولياء القوية بالمؤسسة.
تصورت حجم المصاريف الضخمة التي يحتاجها هذا العدد الهائل من الثانويات والجامعات والمدارس الأمريكية التي تعد بالآلاف، والتي لا شك أن أغلبها في مثل هذه الجودة أو أكبر بكثير بالنظر إلى أن عمر المؤسسة متقدم نسبياً.
سألت مدير المؤسسة، التي تضم حوالي أربعمائة تلميذ، عن مصادر التمويل، فأخبرنا أنها تقدر بحوالي خمسة آلاف دولار سنوياً للتلميذ الواحد، وكانت المفاجأة في جوابه أن أغلب التمويل يأتي من مجموعات مدنية تنتظم في إطار حركة واسعة ومتنوعة لأصدقاء المؤسسة.
أصدقاء المؤسسة هؤلاء هم قدماء التلاميذ الذين يشتغلون في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والإدارية وما إلى ذلك، بالإضافة إلى أولياء التلاميذ القدامى والجدد الذين تربطهم علاقة حميمية خاصة بالمؤسسة. ليس هذا فحسب، بل إن المؤسسة في إطار المبادرة المفتوحة على المجتمع تقوم بجمع التبرعات بطريقة عادية ومنتظمة لتلبية احتياجاتها وتنفيذ برامجها المُكْلِفة. ...
خلاصة الجواب أن التعويل على الحكومة في النهوض بالتعليم يأتي في المقام الأخير وليس كما عندنا في المقام الأول والأخير!
فكرة انفتاح المؤسسات التعليمية لتلقي الدعم المالي من المجتمع من صميم ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية التي لها أن تفخر بأن أول جامعة في العالم نبتت على أرضها بمبادرة مدنية نسائية صالحة، كما أن منظومة المدارس العتيقة في كل ربوع وطننا قائمة على الاحتضان الشعبي المادي والمعنوي.
لقد خسرت المدرسة المغربية تعاطف واهتمام المجتمع من حولها منذ عقود الاستقلال المعطوب عندما صارت لا تثير أي اهتمام لديه لرعايتها ودعم رسالتها، لأنها في وعي أغلب الناس مدرسة "المخزن" أو الدولة. ولذلك حتى عندما تنفق الدولة أموالاً على بنائها أو تجهيزها يذهب الفساد المالي بأغلب تلك الأموال غشاً في البناء ورداءة في التجهيزات وإهمالاً للصيانة.
كيف نجعل المدرسة إذن في قلب اهتمام واحتضان المجتمع لردم الهوة السحيقة بين الطرفين ولتنشيط دورة الحياة من جديد في مؤسسات تعليمية تسبح في فلك خاص بعيداً عن أي تفكير مجتمعي مسؤول؟
هذا السؤال يجد بعض جوابه في التجربة الأمريكية ويقتضي تشريعاً مستعجلاً يعتبر المدارس والثانويات والجامعات طليقة اليد في جمع التبرعات من المجتمع ولها حساباتها البنكية الخاصة، كما يجعل المواطنين أحراراً ومبادرين في الإنفاق على مؤسسات تربية وتكوين أبنائهم لدعم المجهود الحكومي في هذا الإطار.
بدون هذا التوجه، من الصعب التغلب على تكاليف التمدرس المتصاعدة سنوياً ولكن أيضاً، وهذا هو الأكثر إزعاجاً، من الصعب تصور مدرسة وطنية تعيش وسط دفء المجتمع وفي قلب اهتمامه وانشغاله.
للأسف، عندما تم التفكير في فتح الجامعات على محيطها لتوفير المداخيل المالية اللازمة للقيام بوظيفتها استحضر البعد الاقتصادي والتجاري مع القطاع الخاص.. وهذا مهم لا شك، لكنه يجب أن يأتي في المقام الثاني بعد الدعم التطوعي الشعبي الذي يعكس قيمة إيمان المجتمع بدور الجامعة ورسالتها.
نتمنى أن يبادر الوزير، ومعه الحكومة والبرلمان، إلى إصدار تشريع خاص يخول كافة المؤسسات التربوية الحق في استقلال مالي حقيقي يجعلها مفتوحة على مجتمعها ومستفيدة من خيراته وعطائه وأيضاً خاضعة لمراقبته ومتابعته، لأن هذه الصيغة هي التي تحقق القرب الصحيح وتصنع الاندماج المثمر بين حركة المجتمع ومؤسساته التعليمية والتربوية.
لقد أوشكت المدرسة أن تموت اختناقاً بجعلها مؤسسة دولتية حكومية مخزنية مقطوعة الأوصال عن محيطها.
إننا نعتقد أن البرامج الاستعجالية قد تكون مهمة في إصلاح بعض الأعطاب المؤقتة والمحدودة، لكنها بالقطع ليست مؤهلة لإصلاح العطب الكبير والجوهري المتمثل في استمرار تفكير الحكومة نيابة عن الشعب والحلول محله في تدبير مؤسساته التربوية وصناعة قوتها، ومن تلك القوة توفير الوسائل المادية الضرورية لأداء رسالتها والمشاركة في ذلك حضوراً ومتابعة وتقييماً.فهل سيأتي علينا زمن نسمع فيه عن الإحسان المدرسي على غرار الإحسان المساجدي الذي يتفوق فيه المغاربة تفوقاً كبيراً. نعتقد أن ذلك ممكن جداً.. فقط يجب أن نبدأ من البداية ونصنع القانون الخاص بتحريك هذه العجلة ونقوم بالتوعية والتحسيس الضرورين. والله المستعان !
ذ. الحبيب الشوباني
عن جريدة العدالة والتنمية،
زيارة لمؤسسة ثانوية عمومية أمريكية بمدينة دالاس بولاية تكساس
المواضيع المتشابهه
