النظرة الخامسة والأربعون
انصرفوا بعد تحية الوداع المألوفة ،بعد الثامنة والربع ،لم يبق غير "جيهان" ،بدأت في تنظيف
الأواني ،رن الهاتف رناته المعلومة ،هي من يجيب بدءا ثم تحول المكالمة لصاحبها أو صاحبتها ،"جيهان" جد نشيطة ،قبل أن تخرج "زول"من المطبخ ،أسرعت إلى الهاتف قبلها...
-آلو...
-من؟ماريا؟؟ بونيس ضياس ماريا ..
-.........
-مويرتا؟؟....خويبس؟؟....مليلة؟؟...آه ماريا...
-...............
ارتعدت فرائص "زول" لا تدر سببا لذلك لم تفهم أي شيء ،تسمرت في مكانها ،فغرت فيها ،ماذا
أصاب مشغلتها؟؟أعترتها جنية؟؟ترى جيدا حركات" جيهان"وهي تكلم هذه "الماريا"...ارتفع
صوتها ،امتقع لونها ،انتهت المكالمة....
-تشاو...ما...ري..ية..
عادت إلى المطبخ ،كأنها لم تسمع ولم تر،واصلت عملها...
بطرفها الخفي،رأت "جيهان"تعدو نحو بيتها ،بعد خمس دقائق ،عادت للظهور ،لم تألف "زول"
هذا المظهر ،غريب أمر اللالا ،غريب هذا اليوم ..اللهم يسر ..بذلة رياضية سوداء ،قبعة
سوداء أيضا ...
-"زول " أحضري حذائي ....أديداس الأزرق.
-حاضر لالاَ...
-لا حاضر ولا غائب...بسرعة...بسرعة..
-...............
النظرة السادسة والأربعون
تقلبت "للا خدوج" ،منتصف الليل تقريبا ،نباح الكلب يعلو ،هذا "برحيل" بدون شك ،هبت ..استقبلته
بفتور كبير ،أضاءت البيت بشمعة ،وضعتها على إناء متعدد الاستعمالات ،مرة للأكل وأخرى لغسل الأيدي ...ولغير ذلك كثير...شاحبة هي اليوم ،رددت كلمات الترحيب الاعتيادية بطريقة آلية ،لم
يخف ذلك عن "برحيل" لم يفاجأ حتى ،ينتظر ذلك وأكثر ...حضر رغم تردده لفك الرموز المشفرة
التي تلقاها هذا الصباح من "للا خدوج" عند مروره جنب الدار ،بعد تبادل تحية الصباح
بادرت بالسؤال :
-أتعرف عمي "العياشي"؟؟ زوج ابنتي؟؟
-هه...
لم تعره أي اهتمام ولا لجوابه ..بل واصلت:
-هل حقا "عبد الجليل" ابنك؟؟؟؟
بهت ...هكذا وبدون مقدمات أهكذا يطرح السؤال؟؟"عبد الجليل"...عمي "العياشي"...احمر وجهه
لم ينبس ببنت شفة ،واصل سيره ،لم يعقب ،لاحقته بسؤال آخر ،لغز هو الآخر ،قهقهت
بعدها وهو يبتعد:
-هل ستوالي "حورية" خدمتها لعمي "العياشي"؟؟
تأكد أن ليلته هاته هي امتحانه الأخير ،سيعقبه فلاح أبدي ...أو اجترار لجروحه إلى آخر أيامه
جلس على الفراش الموضوع أرضا ،اتكأ على وسادة "للا خدوج"،قبعت قبالته ،حدقت فيه مليا :
-"برحيل" من أي موطن أنت؟؟؟
أي صندوق أثقل ؟صندوق خشب أم صندوق حديد؟.....
ازداد اضطرابه ،غريبة هذه المرأة ..ما هذه الأسئلة الملغمة؟ اللهم يسر ..تنحنح..لا مجال للمراوغة..
تدعوه للجواب ...لا شيء غير الجواب ..
النظرة السابعة والأربعون
حثت "امحيجيبة" خطاها نحو المحطة ،متلفعة بثيابها البدوي الملفتة للانتباه ،متأبطة لرزمة
أثوابها كتأبط شرا مؤنث...يسرع الخطى نحو المجهول...
-إلى أين تريد آنستي؟؟
تفحصت هذا الوجه الجميل ،هذا الشاب اللبق الذي حياها بانحناءة من رأسه :
-حي "إبراقن"...توصلني؟؟؟
-حي "إبراقن"...حي"إبراقن"..إيه تفضلي ...
-سعيد..آسعيد .. كم الساعة؟
-الخامسة وعشر دقائق ..نوفيا؟؟؟
-لا..لا تريد حي "إبراقن" الخامسة؟ أوه...تفضلي آنستي بسرعة.....
فتح الباب ،ولجت الطاكسي الصغير تجر تلابيبها ،حاول أن يغلق الباب ..جزء من لباسها ما يزال يعانق الريح ...نبهها جذبته ..أغلق الباب .
شغل المحرك ،تحرك رويدا رويدا عبر هذا المربع الصغير الذي يسمونه محطة ثم إلى الشارع الكبير ..هي تنظر يمنة ويسرة ..أثناء الطريق سألها عن العنوان الذي تقصده بالذات ،تحدث بصوت خفيض ولباقة تليق بالمتخرج من الجامعة منذ عامين ،حدثها عن المخاطر التي تحيط بساكني هذا الحي وزواره...خصوصا في هذا الوقت المتأخر...
علم أنها تركت باديتها ليومها وأنها لا تنوي العودة إليها ثانية وأنها تبحث عن سيدة تدعى "كنزة"
تسكن هذا الحي ،استمع إليها بكل إمعان رغم تلعثمها وهي تحدثه ،لم يسألها الأسباب ..قرأ في نبرة صوتها المأساة ..لا داعي للسؤال ..لنبش الجرح ..دعه عله يندمل ..كما يحاول هو أن ينسى جروحه ..أن ينسى سنواته العديدة في المدارس والثانوية والجامعة ..تذكر ..دمعت عيناه توقف أمام آخر متجر مفتوح...
نزل ،سأل عن "كنزة"أعطى الأوصاف ..الأصل وما إلى ذلك..
النظرة الثامنة والأربعون
-تسكن هذه "المصيبة"..آخر بيت في أقصى الحي ...
هكذا كان الجواب ،عاد إلى سيارته ..واصل المسير ..الطريق محفرة كل مرة يتقافز طفل أو طفلان أو أطفال...عابرين الطريق ..حاملين فوق رؤوسهم أكياسا بيضاء ..
ما بداخل هاته الأكياس؟؟ لماذا يسرعون هكذا؟؟ أين يحتفي هؤلاء القوم؟؟ أوصلها إلى البيت المنشود
أرادت أن تؤدي الثمن للشاب "شوقي" لكنه امتنع قائلا بصوت متحشرج:
-أختي "امحيجيبة" هذه عنواني و رقم هاتفي ... لا تترددي في أي وقت أن تتصلي بي في أي وقت
إن وقع لك أي مكروه لا سامح الله ...أنا وعائلتي سنكون في الخدمة...
حاولت أن تقول شيئا ..أن ترد الجميل ..لم تستطع أن تتكلم إلا بصعوبة بالغة:
-ربي يرعاك ...لن أنسى جميلك..
أغلقت الباب ،اتجهت نحو المنزل المنزوي ،"شوقي" لم يعد أدراجه ،ظل يرقبها من مكانه وهي تطرق الباب ،بعد هنيهة فتح عن امرأة سمراء في الأربعينات من عمرها ،تأتزر البياض ..عانقت "امحيجيبة"
وبعد كلمات قليلة ..تأكد أنها تعرفت عن ى"كنزة"،شغل المحرك ..عاد من حيث أتى وهو يكظم
غيظه من نفسه التي ترحم الكل إلا ذاته ...سادية معه هذه النفس
عاد ثانية إلى هواجسه والتفكير المضني في يومياته وعذاباته....
لم يقو على محو طيفها عنه ...استمر في قيادته دون أن ينتبه إلى الأطفال.........
-يا ولد الق.........الله يلعن أبوك
-سنراك ثانية هنا آولد.........
-والله العظيم لأحطمنك.........