تتخطفك عيون الشارع .. يكتحل الليل من العتمة على شعرك .. تعثرت عيناي بالبسمة على شفتيك.. تجاوزتك.. التفتتُ إليك أواصل المسير..
قلتُ : ـ أنت جميلة ..
قلتِ : ـ أنت في خطر ..
ـ أنت غاية في الحسن..
ـ أنت في خطر
ـ أنتِ ..( جحظت عيناك , ووضعت كفيك على شفتيك تكتمين صيحة لم تنطلق), شاهدتُ وجهة بصرك..مزيج تسارع على خلاّط وعيي .. فرامل ,ومؤخرة شاحنة تدنو .. صرير عجلات ..وزعقة انتشلتني من الموت..كنت على شفى الارتطام بالشاحنة لولا تحذيرك.. عدت إليك أشكرك , وأشكر الشِّعر على عينيك .. تمنّعتِ وأصررتُ .. عاتبتِ وعاندتُ..رأيت فيك الأمل والحياة ..هجرت على أرضك كل نساء عالمي ..تخليت عن الأنثى في أرق ألوانها وأعتاها فتنة وإثارة .. تخليت عن جمال الحسان لأجل بكر من الجنة نزلت لإنارة الوجد على عالمي .. أحببتك كما الحب الصراح , كما انبهار الفَراش , كان عشقك سيلا زلالا يمسح الحزن عن أمسي ويومي ..عشرون سنة , تزفين وفاءك وعذوبتك على فراش رضاي وهنائي ..تجملين كل ليلة شفتيك بحمرة الابتسام , وتكتحلين بمسحوق الرضا .. كان إخلاصك أريجا أصيلا يعد الطلّ َعلى ثغري وينعش بعبقه ليالي الشتاء والصيف ..
خانتك فحولتي وشحت على رحمك بالأولاد .. كنت أرى بسمة الحمد والرضا (بالمكتاب) يافطة بالكاد تستر لهفة الأمومة على ثغرك البسام .. أتذكرين صيف السنة الأولى من العقد الثالث من زواجنا ؟؟ حين سمعتِ هدير محرك السيارة أركنها جانب الطوار .. خرجت عليّ بلباس البيت مهرولة كسرب حمام يتخطف حبات الشعير .. فتحت عليّ باب السيارة ..سحبتني من يدي إلى البيت , لا ألوي على جواب ولا تفسير .. اختلطت عليّ الاحتمالات , وتنازعتني مشاعرُ الحيرة والسؤال .. صدقيني , في لحظة حسبتك جننت ..أوصدتِ الباب خلفي , وسحبتني لغرفة النوم .. استلقيتِ على السرير على ظهرك ..نزعت من اللباس ما يحول دون رغبتك ..قلتِ قبِّل .. رمقتك بنظرة استغراب ,وزادت نسبة شكوكي حول حمقك ..
ـ قَبِّلْ ..
ـ وهل هذا وقته ؟؟؟
ـ قَبِّلْ ..
ـ محرك السيارة لا يزال شغالا , وبابها مفتوح..
وقبْل أن تكرري فعل أمرك الذي تصرين عليه , امتثلتُ خشية سرقة السيارة ..تتبعتُ وجهة سبّابتك , فلثمت في عجالة صُرتَك التي تتشح بالصفاء والبياض ..وقبل أن أهم بالانصراف , أعلنتِ أنها أول قبلة مني لابني ..رمقتك في استغراب سائلا دون كلمات .. فأجبتِ :
ـ نعم أنا حامل..اذهب الآن وأوقف محرك السيارة .
لم أع لحظتها عن أي سيارة تتحدثين , ولا إن كنت أصلا أمتلك واحدة .
كنت دوما شمس سمائي والنجوم .. وجاءت "أنسام" لتشكل الثريا التي يئس سقف زواجنا منذ عقدين من تركيب حباباتها ..
كانت سعادتي بك منذ الأزل تأخذني إلى الجنون , فكيف وقد توّجت هامتَك بأنسام , حصاد العشرين سنة ..
توالت اللحظات تتلوها اللحظات , وأنت تينعين وتتفتحين أمام ناظري مع كل بسمة ترفعها ابنتنا الصغيرة .. رأيت فيك "أنسام" بالحجم الكبير .. كنت أكثر طفولة منها .. مهرة لعوب ينصهر فؤادي بسحرك وغنجك.. أحببتك وأحببتك ..وأحببتك ,أسابق كل يوم الريح على الطريق حتى أعود لعالمك .. فأضعك من جديد على مروج عينيّ فراشة تطارد بلا هوادة شعاع النجم الصغير أنسام .. جعلت جنتي الأرضَ , وسحبت الألوان القاتمة عن أديمها , حتى الليل جعلت له ألوانا قرمزية .. أشكرك أنك حبيبتي ..
ألف عام من السعادة .. من الخدر,تنساب الهوينى .. تتهادى على أعمارنا, لا نشقى فيها ولا نردى .. إلى أن ..
حتى الذكرى تؤلمني ..طفقت أتحاشى ذكر اليوم الذي .. حين جاء من يقتحم الباب عنوة ,ويسحب الجنة من تحت أقدامي .. لم أُطرد من الجنة , لكنها انتُزعت مني ..كان خميسا بلا ألوان .أفقتُ على مغص بشفرات رديئة الشحذ , يمزق أحشائي .. غادرتُ السرير أزم شفتيّ على الأنين, وأنت حالمة يعلو محياك رضا الدهر .. باعدت الخطو إلى المراح , حيث انفجرت أول سعلة ,نثرت مزيج الدم والظلام ..ونثرَت معها أول أعمدة الصرح الجميل .. فكانت أول جملة يصوغها القدر على دفاترنا لبداية عهد جديد..
تسلل المرض في غفلة إلى عالمي الصغير, يتعقب في همة أثر السعادة والحمرة على جسدي .. حوّلني في أيام إلى مسخة بشرية ضامرة تتشح بصفرة الدمى .. أتت نار العلاج وشرَهُ المستشفيات على الغالي والنفيس..أرقب من الركن فلول سماسرة الأثاث وهم يسحبون الأمتعة في لذة منتشين بالظفر الثمين ..لا أقوى على الكلام , أتضور ألما وهم يبخسونك قيم الأشياء ..كم كان ثمن السعادة غاليا ..أرى خلف ابتساماتك المصطنعة ,التي تشرعينها بوجهي كلما تعانق بصرنا,آلاما مبرحة وحسرة بحجم الصراخ ..آه يا وجعي آآآآه ..
لو كنتِ غير ملاك , لقلت قصَاصًا لما جرحَته يدُ مذنبٍ .. لم ترحم يد القدر ما بقي من أثر جميل ..كانت تتعقب كل أمل يحفزك على متابعة المسير .. حتى البسمة على محيا أنسام .. اغتالتها .. وقطعت بذلك آخر شريان يمدك بالحياة .. اعتلت الصغيرة بدورها فراش المرض, وبدأت شعلتها تخبو في اضطراد ..علمت حينها أن النهاية بدأت تزحف على ماتبقى من فرح جميل.. كنتِ تسابقين المنون إليها , موزَّعة بيننا , ولم يفلح هلعك ولا ثمن البيت في انتشالها من رحى الموت ..كانت خطاها الصغيرة حثيثة , تُسارع بها إلى حيث المثوى الأخير .. رحلت في حولها الرابع , ولم يمهلها الزمن لحظة للالتفات تودع لهفتك الحارقة .. أراك تطاردين سيارة نقل الموتى تغادرُ الحشد الكبير ..تتخلصين من قبضات الأيدي .. تتعثرين .. تنشبين أظافرك بخديك وفخذيك وجنبات سيارة الوداع الأخير .. تتابعين الهرولة , تنادين ملء صوتك : بنتي .. بنتي .. بنتييييي .. والسيارة تتباعد ..وتتباعد ..تشق طريقها صوب الأفق.. تتصاغرين وحاملة كبدك نقطتين سوداوتين إلى أن وارتكما نقطة التلاشي بالأفق .. اغرورقت عيون المارة ,لا أحد يعرفك ,توقفت حركة الشارع الذي تعبرينه , في موكب مهيب يشيعونك بنظرات الأسف والغصة تحبس أنفاسهم .. حارت النسوة أيَبكين أنسام أم يَبكينك أم يبكين حظ أسرتك العاثر ؟؟ !!
.. لم يوسعنا الوقت فسحة للشبع من رفقتها .. رحلت وطمرت معها البسمة.. ظل طائر رحيلها يحوم حول نظراتنا, اغتال الكلمة , ونشر بعدها الفاقة والسكون.. تحولتِ في لحظة لعجوز في السبعين..عينان تحيطهما زرقة الكدمات, غارتا بعيدا تجتران لحظات الماضي الحزين ..شرع السعال يسابقك إلى الكلمات , تتهادين في وهن , وتكابرين .. إلى أن أخذك إلى جانبي , حيث انتظار الرحيل .. غرفة ,رغم حقارة المستشفى ووساخته , تتشح ببياض , ومكيفات تنفث هواء قطبيا, تمنع تعفن الجثث التي تسّاقط حولنا تباعا كحبات الزبيب ..
لا تستائي اليوم و أنت قريبة مني .. يتعجل الصقيع أخدك بعيدا عن جسدي .. أقرأ عبر يديك دفاتر صدرك الجريح .. لماذا أتيت اليوم وما برحتِ طرفة عين لحظاتِ احتضاري .. كم تمنيتك تبعدين عن عالمي ,إلى ما لانهاية حيث يمنعك الجودي عن طقوسي .. لِم تصرين أن تزيدي من قسوة أسفي وانسحابي .. لقد متُ قبل هذا ألف مرة وأنت تتأوهين في صمت, تسترين موتك خلف معاناتك والأنين .. كم سهد وجعي المبلل بالنجيع على همس نحيبك .. كم ..وكم .. وكم.. والله ما كنت أعلم أني أحمل لك الموت على أطباق هدايا الخطوبة ودفاتر غزلي .. فلِم آثرتِ اليوم الاتشاح بالبياض .. تتمددين جنبي .. تزفين نفسك بهذه الغرفة الباردة..أما كان يكفيك إخلاصك .. والتعب .. والمعاناة.. لم تكوني لحظة في حياتي مزنا عارضا.. كانت سماؤك دوما تضج بأحمال الصبر .. والمطر .. أكنت تحسبينني غافلا عن أنينك وعبراتك المهراقة خلف حجب الظلام .. عن الشمعة تخمد بداخلك إلى الأبد .. كان دفؤها يورد خدودك ويبث النور حول جلساتي .. .. أعلم أنها ما كانت لتستمر أمام نزقي .. و ما كنت أعلم أن تلك النزوة العابرة رصاصة تقطف في طلقة وردتَين جمّلتا حديقتي و حياتي.. ما كنتُ أدري أنْ حيث الدواء يترصدني الداء.. كانت الممرضة , تلك الحسناء وهي تدلك وعكتي , في غاية الغنج والدلال, تخر للمساتها أعتى الجبال , تلغي بنظراتها المتوددة لاءات المبادئ و الموانع.. وكأن الغرفة بضوئها البنفسجي الخافت, وموسيقاها الهادئة , و عطر أنفاسها الميمم بآهات مثيرة . ماخورا لتحريض الانفعال .. ما كنت أدري أن ثمن النزوة حيوات ولا بالجنة أدواء.. كان خميسا أسود انطفأت به أنوارك وأنت تقرئين نتائج فحوصاتي .. مرقت كلمةُ "الإيدز" أمام عينيك نيزكا طائشا غير منتظر, فانهارت شظاياك تباعا كقصر من بلّور .. تحولتِ في لحظة صنمَ صلصال باهت ...... زائغة البصر تمارس الصدمة على حاجبيك رقصة الموت .. وقفتِ فجأة !! تعاقبَت على محياك ألوان عاث بها الدهر والخريف .. سيّجَت زرقةُ موت قديم معالمَ تاريخك بلون النيلة و الجير .. هرولتِ دونما اتجاه , دون أن تشاركك رجلاك الخطو والمسير .. ارتطمت بحائط الغرفة !!.. تعلمين , لم تكن به أبواب للخروج !!.. سقطتِ .. ترنحتِ يمامةً جريحة على جراب قناص لعين .. وغادرتِ دونما اتجاه ..
قتلتك وأنسام .. قتلتُك آلاف المرات حبيبتي .. حين خنتك وقطفَتْ نزوتي قبلةَ الموت من تلك الممرضة الحسناء .. و حين علمتِ بنوع مرضي .. وحين علمتِ بعدواك و أنسام صغيرتنا الملائكية .. كنتما تعايشـان زعافا عزيز الترياق .. من يومها بدت مشارف النهايات , وشرعت الأحزان تزحف على ما تبقى من فرحنا الجميل ..
وأنا ممدد الآن بالمشفى إلى جانبك , يقتفي المرض ما تبقى بداخلي لشد الرحيل , لا أكاد أبرح ولاءك .. وهل بعدك نساء ..أو حياة .. خشيتُ أن تصهرني اللهفة والأسفلت و ما زلتِ على مدى البصر ..أراك تسارعين بجسدك وقد دنا الموت من أنفاسك .. تتسللين .. تصرين دائما أن تجعلي منه سترة تقيني نوائب الدرب الحزين .. ألا يكفيك أنك عشت الدهر تذودين عني بين الوجع والأنين .. كنتُ أراك حين هدّني المرض ومنعني العمل , تتوارين خلف الصمت تتسللين ليلا لبيع الفطائر وبالونات الأطفال بالمحطة للمسافرين .. تتساقط آهاتك والعبرات تباعا على سكك القطارات الليلية كأوراق المزق.. تعلقين ابتسامة بالكاد تتشبث بشفتيك , لتتهاوى حين الخلوة ورقة خريف دون انتظار.. كنت أراك وأنت تقلبين خبز المساء , تلهب نيران الموقد يديك وصبرك الواهن المستكين .. تراوحين نظراتك بين الصغيرة والخبز وهزات أنفاسي.. فتندلق من جرة أساي وأسفي جداول من لافة احتراقك والانصهار..
عودي أيتها القديسة و لا ترحلي .. عودي لتحرري جسدي بصكوك غفرانك , فإن ذنبي لعنة كنائس قديمة.. عودي فقد ترعرعت على صدرك والحليب .. عودي وأنت أجمل حواء رسمت الربيع على أرضي .... فمن بعدك يتعهد العشب على رمسي ..
عودي وانشبي بجسدي أظافرك المتآكلة التي قضمتها أكوام الغسيل أو اغرزي برفاتي أسنان حسرة حظك العاثر ..
فقط , ابقي ولا تغادري..
أرجوك