الحلقة الأولى
الاسم: محمد بن عبد الكريم الخطابي
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
ولد سيدي محمد بن عبد الكريم الخطابي في أجدير عام 1882، بكرا لأبيه عبد الكريم القاضي المحلي. وهو معروف لدينا بصورة خاطئة، لكنها حاسمة، باسم عبد الكريم الذي هو اسم أبيه والذي حسب الإسبانيين في جهلهم العرف الريفي أنه لقب العائلة بينما لقب العائلة هو الخطابي. أما اسم «عبد الكريم» فقد كان يعطى، ولا يزال، للبكر في كل جيل بعد جيل، وهو يعبر عن إحدى صفات النبي «خادم الله». وإننا لنستطيع، بعدما أوضحنا هذا الغموض جيدا، أن نستمر في تسمية الابن «عبد الكريم» والأب «كريم الأب». ويجب علينا أن نحترس أيضا بخصوص اسمي عبد الكريم وأخيه الأصغر. فقد سمي الابن الأول سيدي محمد كما سمي الابن الآخر محمد، والاسمان يكتبان بصورة متماثلة في اللغة العربية، لكن الميم ترفع في الاسم الأول وتنصب في الاسم الثاني للتمييز ما بينهما.
ولقد نشأ عبد الكريم في دار العائلة في أجدير المشرفة على خليج الحسيمة الذي تنهض في وسطه الجزيرة حيث تقوم القلعة الشاهقة ذكرى دائمة للتهديد الإسباني الموجه إلى الريف. وفي عام 1925 دمر الإسبانيون منزل عبد الكريم في محاولة منهم لمحو ذكرى الرجل الذي سبب لهم جميع تلك المتاعب. وفي عام 1964 وقفت على شرفة البناء الذي شيد مكانه. إن الأرض تمتد شمالا بلطف حتى الشاطئ، باستثناء جرف شاهق شديد الانحدار يحجب مرفأ الحسيمة الصغير الذي ترتفع وراءه ذروة الجبل الجديد الخشنة، وهو اللسان الأرضي الكبير الذي يمتد الساحل حواليه في اتجاه الغرب. وتستلقي سواحل الخليج في الشمال الشرقي منبسطة عريضة حتى يرتفع خط الساحل على بعد حوالي خمسة عشر ميلا من أجدير، في مهماز من الجبال الريفية التي تفصل بني ورياغل عن أراضي بني تمسمان القبلية. وأدرت ظهري إلى البحر وتطلعت نحو الجنوب حيث ترتقي الأرض بعنفوان نحو الجبال التي تنهض في قمم وصفوف متعاقبة، حتى تبلغ ذروتها في سلسلة جبل حمام الذي تشكل الثلوج قلنسوة دائمة له في الشتاء.
ورفعت عيني عن المشهد الذي ألفه عبد الكريم صبيا ورجلا، وتوجهت إلى ابنه سعيد قائلا: «حدثني عن طفولة أبيك». لم يكن من اليسير استدراج سعيد وإخوته إلى الحديث عن والدهم. لقد رووا لي الأحداث الرئيسية في حياته، ذلك أنهم نشؤوا منذ طفولتهم على قصة نضال عبد الكريم من أجل استقلال الريف، وما كانوا يريدون أن يكونوا متكتمين بخصوص والدهم، هذا الرجل من لحم ودم الذي أحاول تصويره.
كانوا يفهمون إلحاحي المتكرر بشأن المعلومات الخاصة به، وإصراري على تلك التفاصيل الخصوصية التي تجلب الطابع العام بملابس يمكننا أن نحسها وأن نلمسها. عبثا توسلت من أجل بعض القصص عن عبد الكريم، وعن نقاط ضعفه وخصائص مزاجه. وعلمت أنه ليس من المستحب، في عالم الريف السعيد، أن يثرثر المرء بشؤون الآخرين، لأن ذلك يعتبر خرقا للتواضع وأمرا معيبا يبعث على الخجل.
إن معاصري عبد الكريم، الرجال الذين نشؤوا معه، قد ماتوا جميعا، كما علمت، لأن «الرجال لا يبلغون الشيخوخة في الريف». ولم يستطع أخو عبد الكريم الذي اجتمعت به في القاهرة، ولا صهره الذي اجتمعت به في الدار البيضاء، أن يساعداني بهذا الخصوص. كان أنسباؤه يحترمونه، وكان أبناؤه يحبونه حبا عظيما، وكان يقابلهم بالإخلاص نفسه. وإذا كان عبد الكريم يحتاج إلى نُصب، فإن أبناءه الستة قد وفروه له، لأنهم يدركون بصورة عميقة الإرث الذي تركه لهم، ألا وهو رفاهية شعب الريف. لكنهم ما كانوا يستطيعون أن يرووا لي الشيء الكثير عن أبيهم. وأعتقد أن مرد ذلك إلى العقلية العربية، أو العقلية الإفريقية الشمالية، التي تميل إلى إدراك الأشياء وتعليلها في بيانات عريضة بالأحرى منها في تلك التفاصيل الخصوصية التي ألفناها نحن الغربيين
جريدة المساء