افتتاحية جريدة أخبار الناس ليوم الخميس 23/08/2012
إنقاذ مايمكن إنقاذه
توفيق بوعشرين
كان للورد كرومر، الحاكم العسكري لمصر أيام الاستعمار (1881-1922)
مستشار لشؤون
التربية والتعليم اسمه دانلوب الذي كان بمثابة منظر إيديولوجي للاستعمار الإنجليزي، ومرة طلب كرومر من هذا الأخير أن يعد تقريرا مفصلا عن مستقبل شمس الإمبراطورية في مصر والشرق عموما. ماذا قال دانلوب؟ وماذا كتب؟
«إن الضمان الوحيد للاستعمار في مصر وغير مصر، على مر الأجيال، لا يكمن في الاحتلال العسكري أو الاقتصادي، بقدر ما يكمن في ضرب الفكر المصري والعربي في الصميم، بحيث يصبح عاجزا عن التطور والإبداع والخلق، ويظل معتمدا على غيره ليتحرك»، ثم أوصى هذا الشيطان بالوصفة التالية لشل عقول العرب والمصريين: «لابد أن تتجه سياسة التعليم، من الابتدائي إلى الجامعي، نحو الحفظ دون المناقشة، والترتيل دون النقد، ومحاكاة المراجع دون تشريحها وتكوين رأي مستقل عنها، وتقديس الكلمة المكتوبة دون امتحانها، وبلع الأفكار دون التصارع معها».
ما هي أوجه التشابه بين هذه
الوصايا ونظام التعليم في بلادنا؟ لنترك الجواب للقارئ وللمقارنات التي نعرفها دون حتى أن نقرأ وصايا الشيطان دانلوب. الآن، ما هو المخرج لأزمة التعليم في بلادنا، والتي تشل العقل الجماعي في البلاد وتجعله «عقلا» سلفيا إخباريا يعيد تكرار ما وضع فيه دون تحليل أو نقاش، كما تشل «المصعد الاجتماعي» الذي كانت المدرسة تشكل أساسه للارتقاء بين الطبقات الاجتماعية خارج السلالم التقليدية المرتكزة على مال العائلة أو نفوذها أو شبكة علاقاتها...
أسوأ اختيار قام به رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران أنه «زهد» في وزارة التعليم، واعتبرها غير مهمة، وفضل عليها التجهيز والنقل والخارجية، في حين أن قطاع التعليم قطاع استراتيجي، وإعطاؤه لحزب الاستقلال، الذي يحتفظ بعلاقات غير ودية تماما مع هذا القطاع، خطأ سيدفع المغرب ثمنه اليوم والغد.
إصلاح التعليم اليوم لابد وأن يرتكز على أسس جديدة حتى نوقف نزيف هذا الجرح القديم، ومن هذه الأسس:
1 - لا لتسييس التعليم وإغراقه في الحزبية الضيقة، ولا لتفويته لـ«التقنوقراط» الذين لا يقدمون حسابا لأحد عن اختياراتهم مهما كانت كارثية. يجب إرجاع التعليم إلى خانة الاختيارات السياسية وإلى مجال السياسات العمومية الموضوع في يد الحكومات، ومحاسبتها على ما تحقق وما لم يتحقق.
2 - لا بد من إبعاد العملية التعليمية عن سوق المزايدات النقابية، وعدم الربط بين المطالب الاجتماعية المشروعة لرجال ونساء التعليم وحقهم في المطالبة بما يرونه حقا، وبين حق التلميذ والعائلة والوطن في الحصول على «جودة التعليم» وعلى إخلاص وتفاني أطر
التربية والتكوين. المطالب الاجتماعية والحركات الاحتجاجية يجب ألا تدخل إلى الفصل وإلى ساعات العمل، وإلا فإننا سنجعل من أبنائنا رهائن في لعبة الصراع بين الحكومات والنقابات.
3 - يجب تغيير النظرة إلى القطاع الخاص، وعدم اعتباره «قطاعا ثانويا» في
التربية والتعليم. هذا خطأ، فالتحولات السوسيو-اقتصادية التي تعرفها البلاد تحتم على الحكومة أن تعتبر القطاع الخاص شريكا كاملا ومنافسا كذلك للقطاع العام، وأن نتوقف عن تبخيس شواهد القطاع الخاص مع مراعاة الجودة والمراقبة.
4 - لابد من وضع آليات للمراقبة والتقويم والمراجعة للعملية التعليمية ولفحص الأهداف والإنجازات، وهذه الآليات لابد وأن تكون مستقلة عن الجهاز التنفيذي حتى تتمكن من أداء وظيفتها في قطاع حساس الخطأ فيه مكلف جدا جدا.
5 - لابد من المرور إلى جهوية التعليم ولامركزية القرار في هذا القطاع وإقرار الزجر والغرامات لإعطاء معنى لإجبارية التعليم. لا يمكن أن نسمح بمغادرة نصف مليون تلميذ لكراسي الدراسة كل سنة في ما يسمى الهدر، وهو أكثر من الهدر.. إنه انتحار بطيء للفرد والمجتمع، كما يجب إقرار الإجبارية في محو الأمية بالنسبة إلى الشباب من 18 إلى 40 سنة حتى نستدرك التأخر الحاصل في محاربة الأمية، ونخرج من وصايا دانلوب
منقول
شارك بالموضوع عبر الفايس بوك