نادية بلغازي
نستقبل اليوم أيها الكرام، أياما للعزيمة والصبر، والعبادة والأجر، صيامها شفاعة وبركة واستجابة، عند غروب كل شمس منه عيد، خلد ذكراه القرآن المجيد، بنصره المكين، وفتحه العظيم، قال عنه المعلم الحبيب صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن خزيمة عن أنس:"أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون،" إن من حسن الاستقبال وطلاوة الاستهلال، أن نعد الروح والبدن لاستقبال فيوضاته والغرف من عطاءاته، ثم نتساءل بعدُ ماذا تتعلم الأمة من شهر رمضان؟ وكيف يعلمنا رمضان خصال النبوة؟
إذا كان التوحيد إقرارا لله عز وجل بالعبودية، وخروجا عن هوى النفس، وإقامة الصلاة خضوعا لضوابط هذه العبودية، والزكاة تحريرا للنفس من الشح بحملها، ضمن تكاليف العبودية، على البذل في مواطن الخير... فإن الصيام ضبط لشهوات النفس وتصفية للروح التي ما أن تكتمل للمرء القدرة على الشد بزمامها، والسيطرة على أهوائها، حتى ينطلق في ميادين التعبئة والدعوة والبناء.
عند الإمام الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"السمت الحسن والتُؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة" نتوقف عند هذه الخصال في علاقتها برمضان
أ- السمت الحسن
السمت الطريق القويم والهيئة الطيبة، سمت حسن عام في الأمة وهي تعيش بركات هذا الشهر الكريم؛ وحدة في الوجهة، ووحدة في السلوك، وحدة في البرامج، وحدة في الصيام والقيام والإقبال على كتاب الله، وحدة في السمت العام للأمة...
الاستجابة لأحكام الله تستولي على القلوب المؤمنة وعقولها وإرادتها فتخضعها لسلطان الشريعة وأحكامها، بالصدق كله والإخلاص كله، ابتغاء وجه الكريم والدار الآخرة. همم مؤمنة تتسع للكثير من البر ولجلائل الأعمال سرعان ما قد يبزغ فجر عيد جديد فتنسى عزمات التوبة والحوبة. فنكن ممن يعيش رمضان العام كله.
إن من مظاهر السمت الحسن مفارقة الكثير من الظواهر ومزايلتها، حتى يحيا المؤمن الإيمان ظاهرا وباطنا.
ليس من السمت الحسن في شيء، جورب ثخين وبرقع أسود ولحية طويلة مع تنفير للأمة وتخويف، تحت دعوى محاربة البدع والضلال.
قد ينصب التائب نفسه أو التائبة، بحسن نية غالبا، وبفهم لا يقرأ مقاصد الشريعة وكلياتها، وبتحريض من كتب أنيقة تنفث سما أو أشرطة غريبة توزع بالمجان، ينصب نفسه حكما، ووالداه وإخوته وبقية رحمه إلى مقصلة الجلاد.
ما هذا بالقصد. أمتنا مستباحة الحمى، مستضعفة، كليمة ليست بحاجة إلا إلى جهود موحدة تواجه بها الخطر الداهم، وتشمر بها عن ساعد البناء.
ب- الصيام والتؤدة
التؤدة خصلة مهمة من خصال الإيمان والنبوة، علَّمَنَهَا الحديث الشريف. فكيف نزيد بها ارتباطا في هذا الشهر الكريم؟
التؤدة: الرزانة والتريث مع ما يرتبط بها من التحلي بالحلم والأناة وضبط النفس والتحمل والصبر في ميادين ال****، وأول ال**** **** النفس نحملها على الإذعان لأمر الله، وإقامة دينه، والقيام عند حدوده لتقوم داعية منافحة عنه. وما رمضان إلا شهر لتعويد النفس على الصبر والأناة. يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل إني صائمعنف يقابله رفق، سباب يقابله حلم وتذكير بهدف سلوكي خلقي مرجو من هذه العبادة: ضبط النفس.
ضبط المؤمن للسانه من أبرز تجليات ضبطه لشهواته، فالكلام شهوة، فإن كان سبابا وشتما، فما ذلك من خصال النبوة في شيء، وما ذلك من صفات المسلم الذي يسلم المؤمنون من لسانه ويده.
إن تحويل الأمة من إسلام فطري موروث إلى تمثل واضح لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه سلام الله، ومن فتنة متأجج أوارها إلى تجديد، ومن ضياع في الفهم إلى فهم تنويري متجدد يغرف من النبع، ليتطلب رفقا بالأمة وتدرجا في تربيتها حتى يقف الناس عند السلوك الإسلامي المكتمل، ويتطلعوا إلى خلق النبوة، فيحبوا الدين ويحبوا إقامته.
سيف مصلت، وقلب قاس لا تلامسه الرحمة، ووجه عبوس، وطبع خشن وخلق جاف، وأحكام معسرة منفرة... ما لهذا تحتاج الأمة لتستمال قلوب أبنائها وتهفو لطلب وجه الله وتطبيق أحكامه.
لنا في الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم المروي عنه عند مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:"إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" لنا فيه جميل الأسوة في تربية الأمة على الرفق، وفي تربية القرآن على التدرج بلسم لمن أراد الشفاء.
ج - رمضان وخصلة الاقتصاد
من تربية الأمة على الرفق والأناة والصبر وبتدرج، نقف عند خصلة الاقتصاد.
الاقتصاد من القصد الذي يعني استقامة الطريق، والمقصود بكلمة الاقتصاد النبوية، التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
رمضان يعلمنا الاقتصاد والانتهاء عن عادات التبذير والترف المخزي. مجاوزة الحد في الأكل والشرب من معوقات السير إلى الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه:"خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم... ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا" ينبغي أن يتحول الصيام انعتاقا من الأعراف المألوفة، وراحة من عادات التبذير والإسراف، دون إخلال بالمستساغ منها الذي يساعد على إقامة الدين والاستعانة على التعبد، ومما يحول دون القطيعة المطلقة عن المجتمع.
في بيئة خامدة، لا ينفع تغيير المظاهر، بل لابد من اجتثاث لوثة الانحراف بما يلائم من وسائل التربية والتوجيه والتدرج.
لابد أن ننضح في النفوس معاني الإيمان، وتستشف القلوب دلالات العبادات، فتحافظ تمام المحافظة على أحكامها الشرعية وأبعادها السلوكية الأخلاقية.
عن طلب الكمال، عن إرادة وجه الله العظيم وما عنده إلى مجرد حرص على التملك المادي. متى نرقى إلى مستوى تملك المال دون أن يتملكنا؟ متى ندرك أن الله عز وجل فتح لنا أبواب الرزق للابتلاء:﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله و**** في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره﴾
[1]لن نرقى إلى هذا المقام، إلا إذا ارتقت فينا روح البذل في سبيل الله، روح التضحية، متحدين شح النفس، باذلين ولو كان بنا خصاصة.
فساد الفرد والمجتمع أمران مترابطان، كلاهما ينشأ، مما ينشأ، عن الحرص والجشع وطغيان الأنانية الفردية.
عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم أبو عبيدة بمال من البحرين قال لأصحابه:"فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم" أن تعيش الأقلية الترف وترفل في النعيم، بينما الأغلبية في هوة سحيقة من الحاجة والبؤس والفاقة، ما بهذا أمر الله! فأين المواساة والإحساس بمعاناة الآخرين؟
في انتظار إقامة العدل، العدل في قسمة الأرزاق لتنقذ الشعوب من ذل الفقر وخزي المسألة فيصفو وعاؤها لتتنزل فيه التربية لترقى في مدارج الإحسان، حري بنا أن نرتفع من درك التهمم الفردي إلى علياء الأخوة الإيمانية التي تفرض الاهتمام بأمور المسلمين. روى الإمام أحمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله" فكيف وفي الأمة طبقات متخمة وأخرى جائعة بائسة؟
أما بعد،
فإن رمضان شهر للاستمداد الدائم والروحانية العالية والذكر والتبتل، والبذل ومواساة ذا الحاجة...
فلنغتنمها تزودا من خصال النبوة حتى تستمر وظيفة هذا الشهر السنة جميعها، ونكون من المتحققين بما كان عليه حال السلف الصالح الذي كان يستعد لرمضان ستة أشهر وينتفع به ستة أشهر فتتحصل له التقوى.