بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على رسول الله و على صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
قال المؤلف:
زيادَةُ المَرء في دُنياهُ نقصانُ**** وربْحُهُ غَيرَ محض الخَير خُسرانُ
----------------------------
زيادَةُ المَرء في دُنياهُ نقصانُ****................................
يجب أن ينزل المؤمن نفسه في هذه الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة ، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى الجنة أو النار ، فإذا طال عمره وحسن عمله كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة وإذا طال عمره وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه
والعاقل يعلم أنَّ السفر مبنيٌّ على المشقَّة و رُكوب الأخطار، ومِن المحال عادةً أنْ يُطلَب فيه نعيمٌ ولذَّة وراحةٌ، إنَّما ذلك بعدَ انتهاء السفر
و من لم يورثه التعمير و طول البقاء؛ إصلاح معائبه، واغتنام بقية أنفاسه فلا خير له في حياته
و أغبى النَّاس مَن ضلَّ في آخرِ سفرِه، وقد قارب المَنزل
و أكثر الناس ينفقون أعمارهم في مخالفة أو محاربة شرع الله و ذلك بسبب الجهل بقيمة الوقت و قلة اليقين بالآخرة
ما تبلغ الأعداء من جاهل***ما يبلغ الجاهل من نفسه
حقيقة عمر الإنسان
قال ابن القيم:
هلم إلى الدخول على الله ، ومجاورته فى دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء ، بل من أقرب الطرق وأسهلها ، وذلك أنك فى وقت بين وقتين وهو فى الحقيقة عمرك ، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل ،
فالذى مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار ، وذلك شيئ لا تعب عليك فيه ولانصب ولا معاناة عمل شاق ، وإنما هو عمل القلب
و تمتنع فيما يستقبل من الذنوب ، وامتناعك ترك وراحة ، ليس هو عمل بالجوارح يشق عليك معاناته ، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وسرك ..
فما مضى تصلحه بالتوبة ، و ما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم و النية ، وليس فى الجوارح فى هذين نصب ولا تعب ..
ولكن الشأن فى عمرك وهو وقتك الذى بين الوقتين فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاحك وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكرت نجوت وفزت بالراحة واللذه والنعيم ،وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى وبها أنفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها .
وفى هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت فهى والله أيامك الخالية التى تجمع فيها الزاد لميعادك إما إلى الجنة وإما إلى النار ، فإن اتخذت إليها سبيلا إلى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر فى هذه المدة اليسيرة لانسبه لها الى الأبد ، وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب ،انقَضت عنك بسرعة وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذى مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله والصبر على طاعته ومخالفته الهوى لأجله
بعض ما جاء عن السلف في معنى البيت الذي ذكره المؤلف
قال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة ، كلما مضى يوم مضى بعضك.
وقال ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار، وحتى يسلمانك إلى الآخرة .
قال داود الطائي : إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها ، فافعل ،فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزود لسفرك ، واقض ما أنت قاض من أمرك ، فكأنك بالأمر قد بغتك.
وكتب بعض السلف إلى أخ : يا أخي يخيل لك أنك مقيم ، بل أنت دائب السير ، تساق مع ذلك سوقاً حثيثاً ، الموت موجه إليك ، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك ، فليس بكارّ عليك حتى يكر عليك يوم التغابن
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولا بد من زاد لكل مسافر
و لا بد للإنسان من حمل عدة ***و لا سيما إن خاف صولة قاهر
قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره ، وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره ، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله ، وتقوده حياته إلى موته .
وقال الفضيل بن عياض لرجل : كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل : فما الحيلة ؟قال يسيرة، قال: ما هي؟ قال : تحسن فيما بقي غفر لك ما مضى ، فإنك إن أسأت،أخذت بما مضى وبما بقي.
قال بعض الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإن لم يسر ، وفي هذا قال بعضهم :
وما هذه الأيام إلا مراحل *** يحث بها داع إلى الموت قاصد
وأعجب شيء ـ لو تأملت ـ أنها *** منازل تطوى والمسافر قاعد
وقال آخر :
أيا ويح نفسي من نهار يقودها ***إلى عسكر الموتى وليل يذودها
قال الحسن : لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريب الآجال ، هيهات قد صحبا نوحا وعادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا ، فأصبحوا قدموا على ربهم ، ووردوا على أعمالهم ، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين ، لم يبلهما ما مرا به ، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى
و كتب الأوزاعي إلى أخ له : أما بعد ، فقد أحيط بك من كل جانب ، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة ، فاحذر الله والمقام بين يديه ، وأن يكون آخر عهدك به ، والسلام .
نسير إلى الآجال في كل لحظة ***وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقا كأنه *** إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا***فكيف به والشيب للرأس شامل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى ***فعمرك أيام وهن قلائل
قال ابن الجوزي:
ومَنْ تفكَّرَ في الدنيا قبْلَ أنْ يوجَدَ رأى مدةً طويلةً، فإذا تفكَّرَ فيها بعدَ أنْ يخرُجَ منهَا رأى مُدّةً طويلةً وعَلِمَ أنَّ اللُبثَ في القبورِ طويلٌ فإذا تفكّرَ في يومِ القيامةِ عَلِمَ أنّهُ خمسونَ ألفَ سنةٍ، فإذا تفكّرَ في اللُبثِ في الجنّةِ أو النارِ علِمَ أنّهُ لا نِهايةَ لهُ فإِذا عادَ إلى النظرِ في مقدارِ بقائِهِ في الدنيا فرضْنَا ستينَ سنةً مثَلاً فإنّهُ يَمضِي منهَا ثلاثون سنةً في النومِ ونحوٌ مِنْ خمسَ عشرةَ في الصِبَى فإذا حسَب الباقيَ كانَ أكثرُهُ الشهواتِ والمطاعمَ والمكاسِبَ فإذا خلَصَ ما للآخرةِ وجَدَ فيه مِنَ الرياءِ والغفْلةِ كثيرًا، فبماذا تُشترى الحياةُ الأبديةُ وإنَّما الثمنُ هذهِ الساعاتُ؟
------------------------
مستفاد من:
الفوائد/ ابن القيم و جامع العلوم و الحكم/ابن رجب و لفتةُ الكَبدِ إِلى نصيحةِ الولَد
/ابنِ الجَوزي