ليس من الضرورة في شيء أن يكون المرء خبيرا في علاقات الشغل ولا متضلعا في سوسيولوجيا العمل النقابي حتى يكون بمستطاعه مقاربة المسألة النقابية بالمغرب أو الحديث في الممارسة النقابية السائدة أو التطرق إلى مكامن النجاح بها أوجوانب القصور.
المسألة النقابية تخترق كل الفضاءات القائمة. فهي تخترق (وتجد نفسها مخترقة أيضا) بالبعد الاقتصادي والاجتماعي حتما ولكن أيضا بالبعدين السياسي والثقافي وما سواهم. هي من هنا إذن مجال لايمكن الانفلات منه أو غض الطرف عنه أو التخلص مما يترتب عنه مباشرة أوبطريقة غير مباشرة.
هذه الورقة هي مدخل للإشكالية مصاغة على خلفية من ضرورة التساؤل على اعتبار الدور الحيوي لمسألة السؤال في القضايا الكبرى من فصيلة "العمل النقابي زمن العولمة".
هناك، فيما نتصور، ملاحظتان أساسيتان إثنتان لا بد من سياقهما بداية رفعا لكل لبس ودرءا لكل التباس:
+ الملاحظة الأولى هو أن العولمة أضحت ظاهرة اقتصادية بامتياز، في محدداتها الكبرى، في مرجعياتها، في آليات وأدوات اشتغالها وفي طبيعة الفاعلين الكبار بخضمها. بالتالي فربطها بحقول أخرى خارج حقول المال والاقتصاد والأعمال هو من باب الإسقاط الخالص وليس بأي حال من الأحوال تحديدا لمضامينها أو لفضاء اشتغالها.
معنى هذا أن خلط ظاهرة العولمة بأبعادها وتبعاتها وانعكاساتها يجعلها غير مضبوطة وخاضعة للتأويل والتمطيط.
العولمة ظاهرة قائمة أو تكاد بصرف النظر عن الموقف منها: هي ظاهرة قائمة، قطبية، تتمركز بداخلها شتى أشكال الاغتناء وأقصى ضروب الفقر والإقصاء لكنها قائمة وتتجذر يوما عن يوم.
+ الملاحظة الثانية تخص عبارة " تحديات العولمة" الواردة في عنوان هذه الورقة.
عبارة وواقع التحدي قائمين حقيقة الأمر بين أضلع فاعلي العولمة الكبار. هو تحدي اقتصادي واجتماعي وعلمي وتكنولوجي وثقافي وما إلى ذلك. وهو أمر لا مكان للمزايدة بشأنه.
بالمقابل، نلاحظ (بالمغرب وبغيره من دول العالم الثالث) أن هذه العبارة توظف عموما إما لتأثيث الخطاب أو لتبرير الممارسة أو في جوهرها للابتزاز: ابتزاز الدولة أو الحزب أو النقابة أو الجمعية أو ابتزازهم لبعضهم البعض بغرض تحصيل غنيمة رمزية بالسلطة أو مادية على مستوى الحصول على امتيازات من طبيعة ما.
بالتالي فالقائم أن العمل النقابي أو الممارسة النقابية بالعالم موزعة بين واقع تعتبر تحديات العولمة بداخله أمرا واقعا (بالدول الكبرى تحديدا) وبين واقع يتخذ من ذات الخطاب (خطاب التحديات) أداة للابتزاز وللمساومة تبلغ في بعض مستوياتها النفعية الضيقة والهجينة.
من هنا فلو كان لنا أن نسائل الممارسة النقابية القائمة في ظل تحديات العولمة بالدول الكبرى الدافعة بهذه الظاهرة، لاستوقفتنا حتما مجموعة مفارقات من المؤكد أنها ستجد امتدادات لها بالمغرب على مستوى العمل النقابي:
+ المفارقة الأولى، أن الممارسة النقابية التي كانت إلى حين عهد قريب تندد بسياسات الخوصصة والتحرير وإعادات التقنين، أصبحت (بعد أن أضحت هذه السياسات أمرا واقعا) تؤمن أشد ما يكن الإيمان بضرورات المسايرة والتأقلم والانضباط.
بالتالي اصبحت مصطلحات من قبيل "المقاولة المواطنة" و"النقابة المواطنة" وغيرها، أصبحت مكمن توافق بين الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين على اعتبار "أن نجاح المقاولة هو من نجاح عمالها ونقابييها، وتفاني هؤلاء هو من بريق المقاولة وإشعاعها واستمرار المشروع" بهذه الصيغة أو تلك.
يبدو إذن ولكأن هناك توافقا ضمنيا (وإن لم يتمظهر جليا على مستوى الممارسة) بين البعد السياسي والاقتصادي من جهة والبعد الاجتماعي والنقابي من جهة أخرى لدرجة يخال للمرء معها أن هذه الأبعاد هي رافد من روافد المشروع المجتمعي الجديد في ظل انتقال رأس المال من الطبيعة الإنتاجية المتعارف عليها إلى طبيعة مالية خالصة لا تعتبر المضاربات إلا جزءا منها.
هذه مفارقة جوهرية فيما نعتقد، إذ الممارسة النقابية التي كانت تدعي امتلاكها لمشروع مجتمعي أصبحت تابعة لمشروع مجتمعي المطلوب منها تبنيه وتزكيته والبناء عليه بحكم موازين القوى وإكراهات الأمر الواقع.
+ المفارقة الثانية وتكمن فيما نتصور في أن الإشكال زمن العولمة لم يعد كامنا بالضرورة في مبدأ الممارسة النقابية (بما هي شرعنة لما يطلق عليه الديموقراطية التشاركية) بقدر ما أصبحت كامنة في الأدوات المستخدمة والموظفة.
معنى هذا أن ضروب الاحتجاج على ممارسة رأس المال مثلا (من إضراب واعتصامات وشد الحبل كما يقال) لم تعد ذات جدوى كبرى في ظل ممارسات ينخرط في ظلها العامل أو الأجير في رأس مال المقاولة أو يساهم في تحديد استراتيجيتها.
ومعناه أيضا أنه مادام الأجير له مصلحة في ربحية ومردودية المقاولة فإنه يندغم وإلى حد ما في سياستها وفي طبيعة اختياراتها.
بالتالي، فالممارسة النقابية أصبحت لا تعمد فقط إلى مبدأ الرفض والمواجهة تحت هذا الشكل أو ذاك، بقدر ما أصبحت تؤمن بضرورة نهج سياسة اقتراحية هي في المحصلة أقرب إلى سياسات رأس المال منها إلى الفلسفة التي حكمت العمل النقابي إلى حين عهد قريب...بدليل أنها أصبحت متفقة على مسوغات عدة من قبيل أن المهندس مثلا مطالب بخلق مناصب شغل لا المطالبة بالشغل.
+ المفارقة الثالثة التي وضعت العمل النقابي زمن العولمة في المحك وتكمن فيما نزعم في أن الكل (أرباب عمل ودولة ونقابات) ..الكل أصبح لا يحتكم إلى مبدأ التقنين (الذي ساد عهود القطاع العام والمرفق العام) بل إلى مبدأ التنظيم الذي أصبح للسوق فيه الكلمة الأولى والأخيرة إذا لم نقل الفصل.
بالتالي فالسوق لم يعد مكمن طقوس العرض والطلب التقليديان بل أصبح فضاء لتحديد منظومة العلاقة بين رب المقاولة والأجير. وهذا إشكال يضع التقنين في المحك ودور الدولة في الميزان أكثر من أي وقت مضى.
لو كان للمرء أن يستقرأ واقع العمل والممارسة النقابية بالمغرب في ظل ما سبق من معطيات لاصطدم حتما بواقع أزمة جذرية وبنيوية من ثلاثة أضلاع:
+ العمل النقابي بالمغرب يعيش أولا وقبل أي شيء آخر حالة من أزمة الهوية.
فإذا كان مبدأ العمل النقابي معترفا به وقائما بأرض الواقع، فإن واقع الحال ينذر بأنه لم يستطع، منذ البداية كما زمن العولمة، تحديد هويته بالقياس إلى المستوى الاقتصادي أو السياسي-الحزبي لدرجة يخال للمرء معها أن الأزمة أصبحت تطال المبدأ في حد ذاته أكثر ما تطال العمل.
ليس التلميح هنا إلى حالات الانشقاق وضروب الاستيلاب لقوى رأس المال، لكن التلميح يطال أساسا الوظيفة النقابية ، دور الموسطة الذي كانت تقوم به النقابات لفائدة منخرطيها.
أزمة الهوية إذن كانت قائمة لكن ظروف العولمة فجرتها بعمق وأفرزت العديد من تمظهراتها.
+ والعمل النقابي بالمغرب أصبح في عسر من مشروعية لطالما عمل على تكريسها والحفاظ عليها. والمشروعية المتحدث فيها هنا تمس الجهاز أكثر ما تمس الممارسة، إذ عندما تنشق نقابة عن نقابة أو فيدرالية عن نقابة أو فيدرالية عن فيدرالية وما إلى ذلك فإن النقابي يتيه وتختلط عليه الأمور ويحتار المرء في تحديد من له المشروعية والشرعية ومن له الحق في الحديث باسم هذا الفصيل أو ذاك.
الملاحظ أن هذا الواقع كان قائما إلى حين قريب لكن ظروف وسياق العولمة فجراه وبسطا تمظهراته في الفضاء العام.
+ والممارسة النقابية بالمغرب في أزمة من مصداقيتها لن تعمل ظاهرة العولمة مع الزمن إلا على تعميقها وتجديرها. معنى هذا أنه عندما لا تستطيع نقابة ما أن تعيد منخرط مطرود من عمله أو استرجاع يوم أجرة مقتطع جراء الإضراب أو تحول دون تقديم عضو فيها إلى مجلس تأديبي...إذا لم تستطع ذلك فعن أية مصداقية يمكن للمرء أن يتحدث؟ صحيح أن هذه أمور شكلية وفئوية لكنها من طبيعة النقابات ذاتها والتي هي مؤسسات فئوية بامتياز كائنة ما تكن تصوراتها وتمثلاتها للعمل النقابي.
ما الفائدة إذن من المراهنة بالمغرب على ممارسة نقابية أصبحت تنتفي بصلبها تدريجيا المكونات المركزية التي تجعل من ذات الممارسة سلطة مضادة؟
هذا تساؤل جوهري وحقيقي فيما نعتقد لكنه، يقول قائل، يسائل التأويل ولا يسائل بأي حال من الأحوال النص:
- فالنقابة وحدة مركزية في الحركية الاقتصادية والاجتماعية لأي مجتمع. لكن الممارسة هي التي من المفروض مساءلتها ووضعها على المحك. إذا لم يكن الأمر كذلك بالمغرب فلماذا تحولت النقابات إلى مؤسسات بيروقراطية لا يطالها التغيير إلا بتغييب الموت "للزعيم" أو تكون عرضة للانشقاق؟
- ثانيا، سواء تعلق الأمر بالتقنين أو بالتنظيم، فالبعد النقابي حاضر حتى وإن تم التغاضي عنه.
فإذا كان السوق معطى موضوعيا فإن موضوعيته تكمن أساسا في تواجد قوى مضادة تحد من طغيانه وجبروت فاعليه.
التقنين جزء من التنظيم وهذا الأخير جزء من الأول لدرجة قد يزعم المرء معها أن السوق والدولة وجهان لعملة واحدة زمن العولمة.
- ثالثا ما معنى القول الرائج بأن على "النقابات أن تعيد النظر في أدوات عملها" على ضوء تحديات العولمة، أعني تتكيف وتتأقلم؟
الواقع أن هذا الطرح يفرض على النقابة تجاوز بعدها المحلي لمعانقة المنظومة النقابية العالمية. إذ ما دام رأس المال هو نفسه بصرف النظر عن الفضاء الذي يشتغل فيه فإن المفروض توحيد العمل النقابي بين كل التنظيمات النقابية القائمة.
والسر الكامن خلف هذا القول إنما الاعتقاد بأن المهدد زمن العولمة وتطرف الليبيرالية ليس الممارسة النقابية فحسب ولكن أيضا النقابة كمؤسسة راهنت عليها جماهير مختلفة لصد تجاوزات رأس المال.
جريدة العلم،