هناك خطابات كثيرة أحيانا نفهم مرجعيتها، وأحيانا لا نكاد نفهم شيئا، إنها خطابات عربية تنظر إلى ما يقع في غزة بريبة وبمكر أيضا، حيث تبدو المواقف ملتبسة وغامضة، وأحيانا منحازة إلى الهاوية، حتى أننا نكاد نحسّ بأن بعض المثقفين العرب أكثر إسرائيلية من اليهود المقيمين خارج إسرائيل.
ثم إن الإعلام العربي اليوم - وخصوصا الفضائي منه - يكتب بالحروف العريضة: الحرب على غزة، فيما هي حرب مستمرة على فلسطين، كأنما ثمة من له مصلحة في أن تبقى غزة معزولة، وأن يشار إلى المقاومين فيها بأنهم سبب كل البلايا.
لي أصدقاء داخل غزة المدينة، وفي القطاع أيضا، يحكون لي عن أشياء عديدة لا تروق الكثيرين هناك، وعن عدم انسجام العديد من المثقفين مع توجهات حماس، لكن لا أحد منهم بالمقابل سيحب إسرائيل، فقط لأنه يختلف مع حماس.
الإسرائيليون يتميزون بحاسة إضافية لا يملكها العرب، وهي القدرة الهائلة للذاكرة على الحفظ وتدريبها المستمر على عدم النسيان، بينما هذه المخلوقات العربية العجيبة مصابة بالزهايمر، وتلذغ من الحُجر ذاته ألف مرة دون أن تتعظ.
لقد أيقن الإسرائيليون أن أصحاب القرار العرب لا قرار لهم، لذلك يفتكون بالجميع هناك، تحت مرأى العالم، الأجساد الفلسطينية تتعرض يوميا للتشويه والإعاقة والإبادة، والشعوب الضعيفة التي لا تملك شيئا تخرج للشارع وتصرخ وتندد وتلعن ثم تعود مساء لمتابعة الأخبار عبر القنوات الفضائية.
المثقفون أيضا لا يملكون شيئا، ولا يقدرون على شيء، لأن اللغة هناك ليست لغة أدب واستعارة، بل لغة سلاح، ومن لا سلاح له لا حق له في الحديث، صحيح أن الراحل إدوارد سعيد كان يردد من حين لآخر بأن الحرب بين إسرائيل والعرب حرب سردية، فالإسرائيليون يملكون الحكاية التي يؤثرون بها على العالم، بينما العرب فاقدو ذاكرة، ولا يملكون سوى الزمجرة والصراخ أمام المايكروفونات، لكن إسرائيل تملك - إضافة إلى الحكاية المحبوكة وفق نظرة حاقدة ـ القنابل العنقودية والفسفورية.
وعبر سنوات عديدة ظل الإسرائيليون يبنون دولتهم بهمة جيش من النمل، فيما كنا نحن ندبج قصائد عمودية وأفقية ومائلة في هجائهم، كانوا يمحون معالم فلسطين ويقيمون دولة إسرائيل، وكنا نحن نقضي الليالي في كتابة قصائد الهجاء ونسبّهم في خطاباتنا السياسية العصماء وندعو عليهم في خطب الجمعة بالدمار والشتات.
كان أحد أصدقائي خلال هذه الأيام الدموية يؤكد من حين لآخر بأن الجميع سيخذل غزة والشيء الوحيد الذي سينتصر لها هو الجغرافيا، ووجدت ذلك ممكنا للغاية، فغزة تقع عند ملتقى آسيا وافريقيا، وتوصف بأنها الخط الأمامي للدفاع عن فلسطين وعن بلاد الشام كلها من الجهة الجنوبية، وعن مصر من الشمال الشرقي، بل إن التاريخ أثبت أنها موقع استراتيجي حربي جيد، وهذا ما يشهد به تاريخ الإمبراطوريات القديمة والحديثة أيضا:الفرعونية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية والصليبية، وما تؤكده أيضا وقائع الحرب العالمية الأولى، وهي إضافة إلى ذلك تقع فوق مرتفع تلّي بنحو 45 مترا عن سطح البحر، وتبتعد عن هذا البحر بمسافة حذر جيدة محددة في 3 كيلومترات.
وسواء خرجت غزة من هذا المأزق بفضل الجغرافيا أو التاريخ فعلى المثقفين أن يخفوا أمراضهم في هذه الفترة العصيبة وينتصروا للإنسان في دواخلهم، الإنسان الحي الذي يرفض أن يموت الناس دون ذنب وأن يقتل الأطفال بلا جريرة، وأن يباد شعب فقط لأن المقاومة لازالت تنبض في أعماقه.
أما بالنسبة لي فحين يتعلق الأمر بالتقتيل والتدمير والإبادة وبحرق أجساد الأطفال الأبرياء وتشويهها فأنا مع المقاومة سواء كانت مقاومة إسلاميين أو شيوعيين أو ملاحدة.
عبد الرحيم الخصار كاتب وشاعر من المغرب عن مجلة عرب 48