الحمدُ للهِ وَلِيِّ كُلِّ خَيْرٍ وهدايةٍ، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ الدَّاعِي إلى أفضلِ طريقٍ وغايةٍ، وعلى آلهِ وصحبِهِ، مصابِيحِ الهُدَى والدِّينِ، وتابعيهِم بإحسانٍ على النَّهْجِ المَتينِ.
أَمَّا بَعْدُ،
إن التفكر في آلاء الله عز وجل، في الكون المنظور، وفي القرآن المتلو، وفي آيات الله في الآفاق والأنفس فريضة، كل مسلم ينبغي أن يأخذ بنصيب منها. ولقد ضرب الله عز وجل الأمثلة في القرآن وذكر أن الغرض من هذه الأمثلة هو أن يعقلها العالمون ونفى العلم عمَّن لم يعقل هذه الأمثلة. (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) -العنكبوت 43-. وأمر بالتفكر في الكون لِنَسْتَجْلِيَ بديع صنعه وحكمته وقدرته، ولنستجلي عجز الإنسان عن أن يُصَرِّفَ نفسه، دع عنك عن أن يصرف شيئا من الكون.
نتفكر فننظر عِظَةَ الله عز وجل في من بنى القصور وشيد المدائن، أين هم الآن؟ طمرهم تراب القرون، ونسيتهم الأحداث، أين لذة الأمس، أين شهوة النفس، كم رحلت وأبقت ندما، وكم نكست رأسا وأزلت قدما. أين هؤلاء؟ قد تضعضعت بهم القبور. خَفَّ زادهم، وجَفَّ مزادهم. وطال السبيل، وحار الدليل. وما يدريك عَلَى مَا يقدمون، أتثبت أم تزل بهم القدم.
فَيَا أَيُّهَا المَغْرُورُ بادِرْ برَجْعَةٍ *** فِلِلَّهِ دَارٌ لَيْـــسَ تَخْمُدُ نَــارُهَا
وَلا تَتَخيّــَرْ فَانِيـًا دُونَ خَالِدٍ *** دَلِيلٌ على مَحْضِ العُقولِ اخْتِيَارُهَا
أَتَعْلَمُ انَّ الحقَّ فِيـــمَا تَركْتَهُ *** وتَسْلُكُ سُبْلاً لَيْسَ يَخْفَى عِـوَارُهَا
وتَتْرُكَ بَيْضَـاءَ المَنـَاهِجَ ضِلَّةً *** لِبَهْمَاءَ يُؤْذِي الرِّجْلَ فيها عِثـَارُهَا
تُسَرُّ بِلَـهْوٍ مُعْقِبٍ بِنـــَدَامَةٍ *** إِذَا مَا انْقَضَى لَا يَنْقَضِي مُسْتَشَارُهَا
وتَفْنَى اللَّيالِي والمَســرَّاتُ كُلُّهَا *** وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ الذُّنوبِ وَعَـارُهَا
فَهَلْ أَنْتَ يَا مَغْبُونُ مُسْـتَيْقِظٌ فَقَدْ *** تَبَيَّنَ مِن سِـرِّ الخُطُوبِ اسْتِتَارُهَا
فَعَجِّلْ إِلَى رِضْوانِ رَبِّكَ واجْتَنِبْ *** نَوَاهِيَهُ إِذْ قَدْ تَجَــلَّى مَنَــارُهَا
إن التفكر في الآخرة هو الميزان الذي ينبغي للمسلم أن يزن به أعماله، وأن يسبر به غور تقواه، لأنه المآل الذي ينقلب إليه، ولأنه المصير الذي يؤوب إليه، ولأنه المرجع الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون. وَيَتَضَعْضَعُ فيه الجبارون ويذل فيه المتكبرون. يقفون فيه أمام الله عز وجل. (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) -الأنبياء 47-.
إن الله عز وجل خلق الخلق في هذه الحياة فأبدعهم وسواهم وكرمهم، فلم يخلقهم من قلة فيستكثر بهم، ولا من ضعف فيقوى بهم، ولا من وحشة فيأنس بهم، إنما خلقهم ليعبدوه طويلا، ويذكروه كثيرا، ويسبحوه بكرة وأصيلا.
وإذا نظرنا إلى هذه الحياة وجدناها هبة الله عز وجل، فخلقنا وسوانا وكرمنا وأسجد لنا ملائكته، لنعبر عبر هذه المعالم إلى الدار الآخرة. لهذا ينبغي بمقتضى الإيمان الذي يقتضي استسلاما صرفا، وتسليما محضا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم أن ننظر للآخرة، في كل حركة وسكنة، في كل نومة وانتباه، في كل إقامة وضعة، وفي كل طعام وشراب من حياتنا إلا ونذكر فيه أمر الآخرة.
والحكم عن أي شيء فرع عن تصوره. والذي يحكم على الآخرة لابد أن يكون عرف مآلها وحالها وما يكون فيها من أهوال عظام وآيات جسام وما يكون فيها من أمر يعجز الناس عن إدراكه.
وأول معالم الطريق للتفكر في الآخرة هو العلم بأحوالها وما يكون فيها من صور ووقائع. والعلم بهذا الأمر يستتبع العمل والسلوك، ويستتبع المواقف والتطبيق. وأول ما يستتبع العلم هنا الخشية. (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) -فاطر 28-.
اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار. اللهم أحي قلوبًا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك، يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا وأهلينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار.