تعلُّم الكتابة له تأثير ملحوظ في الأنساق المسؤولة عن تنظيم العمليات الذهنية، حيث إن الكتابة نظام رمزي خارجي يتدخل في تنظيم المعالجات الفكرية ويؤثر في بنية الذاكرة وطرق التصنيف وحل المسائل والمعضلات. الكتابة ليست مجرد وسيلة عالية الكفاءة لتسجيل المعلومات وحفظها وتذكرها، بل هي أيضا وسيلة ناجعة لتنظيم المعرفة وترتيبها وتصنيفها والتعامل معها بطريقة تساعد على تحليلها ومعالجتها وإخضاعها لمختلف العمليات المنطقية والنقدية. تدوين النصوص وتثبيتها بواسطة الكتابة ثم وضعها جنبا إلى جنب والنظر إليها بالتزامن، بدلا من سماعها بالتتالي، والمقارنة فيما بينها يساعد على اكتشاف ما فيها من غموض وتناقضات وأخطاء وتضارب وكذلك ما فيها من انتظام واطراد واتساق مما يمكن صياغته على شكل قواعد أو قوانين علمية. اكتشاف قواعد اللغة من نحو وصرف غير ممكنة دون تقييد الألفاظ والعبارات وتثبيتها كتابيا بحيث يمكن المقارنة فيما بينها والنظر إليها بالتزامن، بدلا من سماعها بالتتالي الذي هو سمة الكلام الشفاهي. كما أن تثبيت الكتابة للروايات المتعددة للقصيدة الواحدة أو الحادثة التاريخية هو الذي يسهل علينا اكتشاف ما بين هذه الروايات المختلفة من تضارب وتباين واختلافات تصعب ملاحظتها في ظل الرواية الشفاهية الشاردة. ومن هنا نجد أن اكتشاف قواعد اللغة العربية وأوزان الشعر العربي، وغير ذلك من الإنجازات العلمية في مجالات اللغة والأدب لم يأت إلا بعد تفشي الكتابة في القرن الثاني الهجري، وفي هذه الفترة ذاتها أيضا بدأت الاختلافات في رواية القصائد الجاهلية تشكل معضلة تسترعي الانتباه وتثير التساؤلات والشكوك. وقبل ذلك عند الإغريق نجد أن ظهور الكتابة ارتبط بظهور علم التاريخ على يد هيرودوتس وعلم القياس المنطقي على يد أرسطو.
غياب الكتابة غيّب الحس التاريخي عند الرجل الأمي وجعله يعيش دائما في الحاضر. أحداث الماضي البعيد التي لم تعد ذات صلة بالحاضر تنتفي الحاجة إلى إعادة الحديث عنها وتكرارها فتتبخر من الذاكرة أو تُحوّر وتحدّث بشكل تلقائي وعفوي وتدريجي غير محسوس، وربما غير مقصود، في انتقالها شفاهيا من راو إلى آخر ومن جيل إلى جيل مما يفقدها هويتها الأولى لتصبح متوافقة مع متطلبات كل عصر. فالمفردات التي فقدت دلالاتها تندثر في حال التوقف عن استخدامها أو تستبدل بها غيرها أو يتغير نطقها أو دلالاتها لأنها لم تقيد في قواميس ومعاجم تحفظها من الضياع وتسجل تاريخها الدلالي وتستعرض المعاني المختلفة التي مرت بها في استخداماتها عبر العصور. فالكتابة مثلا سجلت لنا مفردات العصر الجاهلي التي يمكننا الرجوع إليها والتحقق منها بصرف النظر ما إذا كنا نستخدمها الآن أم لا، لكننا لا نملك أي معلومات ذات بال عن اللغة العربية في العصور التي سبقت العصر الجاهلي لأنها لم تصلنا عن طريق التقييد الكتابي. الرجل المتعلم يعرف الكثير من خلال قراءاته واطلاعه على المصادر المكتوبة عن التاريخ العربي منذ عصور ما قبل الإسلام حتى الوقت الحاضر، على خلاف الرجل الأمي أو البدوي في الصحراء الذي لا يعرف من التاريخ إلا نتفا من الروايات الشفاهية المشوشة التي لا يتعدى عمقها الزمني مائتي سنة. غمر الماضي بمقتضيات الحاضر ومتطلباته يجعل الإنسان الأمي ينظر إلى الأمس دائما بعيون اليوم دون أن يدرك حقيقة التغير والتطور أو يعي مسيرة الزمن وعمق التاريخ فيركن إلى الاعتقاد بأن العالم كان وما زال وسيظل كما هو. فالأنساب والأصول والتشكيلات القبلية القديمة تُنسى ويتصرف أبناء القبيلة كما لو كان التكوين القبلي الحاضر أزليا منذ بداية الخليقة. خذ مثلا الأسطورة التي تتحدث عن نشأة ولاية الغونجا في شمال غانا الإفريقية. تقول الوثائق التي سجلها الإنجليز في بداية دخولهم المنطقة مع بداية القرن العشرين, إن مؤسس الولاية كان له سبعة أبناء كل منهم يحكم مقاطعة من مقاطعات الولايات السبع, ومع مرور الوقت اندمجت إحدى المقاطعات بجارتها بينما اختفت أخرى بسبب تعديل الحدود. وهكذا تقلصت مقاطعات الولاية من سبع إلى خمس. وحينما أعيد تسجيل تاريخ الولاية مرة أخرى بعد 60 سنة من المرة الأولى تبين أن الأسطورة عُدّلت وحُدّثت تلقائيا بحيث أصبح أولاد المؤسس خمسة فقط بعدد المقاطعات المتبقية من الولاية. وإذا ما تدبرنا مثل هذه الحقائق ووضعناها نصب أعيننا أدركنا أن الكثير من التغيرات التي طرأت على نصوص الأدب الجاهلي بعد ظهور الإسلام قد يكون مرد معظمها في المقام الأول إلى مثل هذه الآليات، التي هي من خصائص وطبيعة الآداب الشفاهية والثقافات الأمية، وليست دائما وبالضرورة، كما يزعم أصحاب نظرية الانتحال، تزييفا مقصودا أو تدليسا متعمدا تحدوه الدوافع السياسية والاعتبارات الدينية، وإن كنا لا ننفي هذه الاعتبارات على وجه الإطلاق. أشكرك على موضوعك المنطقي في نظر الحداثة التي نعيشها، لكن من يفهم بدون قراءة وكتابة ،ويقتصر على الصوت والصورة يمكن اعتباره أمي.