عبد الله الدامون
العدد : 2337 - 01/04/2014
حين يقف حمار الشيخ في العقبة في القرى والدواوير والمدن البعيدة، يقرر الناس المجيء إلى الرباط بحثا عن طريقة لتسوية «العقبة». وعادة ما يجتمع الناس ويختارون شخصا أو جماعة للذهاب إلى العاصمة، معتقدين أن مجرد ركوب «الكارْ» وترك الدوار سيضع المفتاح في قفل الحل.
المغرب فيه عاصمة واحدة هي الرباط، وفيه آلاف القرى والدواوير والمدن، وكل الناس يعتقدون أن حل كل مشاكلهم المستعصية موجود في الرباط، وكثيرون منهم لم يروا الرباط يوما، لكنهم يؤمنون ببركة العاصمة.
«أنا غادي نطْلع للرباط».. عبارة تتردد على أكثر من لسان وتلخص كل شيء.. ومعناها أن الذي سيذهب إلى الرباط سيقوم بعمل جبار وسيعود معه بالحل، فإذا كان مظلوما فسيأتي بالعدل، وإذا كان مريضا سيأتي بالشفاء، وإذا كان عاطلا سيأتي بالعمل، وإذا كان القايْد قد صفعه في الدوار فإنه سيجد في الرباط عمر بن خطاب جديدا ينهر القايْد قائلا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
يعتقد الناس البعيدون أن الرباط مدينة عالية، لذلك يستعملون دائما عبارة «أنا طالْع للرباط»، وحتى لو كان مغربي يعيش في أعلى جبل «توبقال» ويريد الذهاب إلى الرباط فإنه يستعمل كلمة «طالعْ». يبدو هذا عاديا لأن المسألة نفسية بالأساس، فالرباط عالية في الأدمغة وليس في الجغرافيا.
لكن الرباط ليست ما يعتقده البعيدون.. الرباط حزمة من المتناقضات التي تجعل العاصمة تفتش عن حل لمشاكلها على طريقة «لو كان الخوخ يداوي ..»؛ ففي الرباط يتجمع العاطلون كل يوم تقريبا ويأكلون من العصا ما يأكله الطبل يوم العيد، وفيها من العقبات ما يجبر أكثر من حمار على الوقوف.
في المدن والدواوير البعيدة يصوّت الناس في الانتخابات على أشخاص ثم لا يرونهم بعد ذلك، وحين يسألون عنهم يقال لهم إنهم في الرباط، لذلك عندما تحدث مشكلة في الدوار يقرر الناس الذهاب إلى الرباط بحثا عن برلمانييهم المختفين؛ وفي حالات كثيرة، يغضب الناس ويقررون تنظيم مسيرات احتجاج تأخذهم إلى الرباط مشيا على الأقدام، فيعترضهم رجال الدرك وينصحونهم بالعودة إلى أكواخهم بسبب وجود ذئاب في الطريق، وإذا لم يقتنعوا بوجود ذئاب يتم التلويح لهم ببضع هراوات حتى يقتنع المحتجون بأن الطريق إلى الرباط ليست مفروشة بالورود كما كانوا يتوقعون.
الناس في المدن الكبرى يمرضون فيقررون الذهاب إلى الرباط لأن الرباط وحدها «تجْرح وتـْداوي».. يثق الناس في أطباء ومستشفيات الرباط ولا يثقون في مستشفيات وأطباء مدنهم الأصلية. لكن هناك أشياء أخرى عصية على الفهم، وهي أن هذه البلاد، التي يقال إنها استقلت قبل ستين عاما، لم يفهم مسؤولوها بعد كيف يتم صنع بلد حقيقي.. ففي منطقة الشمال، يوجد أكثر من 60 في المائة من مرضى السرطان، والسبب الرئيسي لذلك هو الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي استعملتها إسبانيا في حربها القذرة على منطقة شمال المغرب بعد ملحمة «أنوال». واليوم، لايزال الناس يعانون أهوال تلك الحرب المدمرة ويتوارثون الموت أبا عن جد، لكن لا يوجد في المنطقة مستشفى واحد لعلاج مباشر للسرطان، والمصابون بهذا المرض الخبيث عليهم أن يحجوا بدورهم نحو الرباط، ففيها كل شيء، ولا شيء.
الناس البعيدون لا يعرفون أن كل السياسات العوجاء والقرارات العرجاء خرجت من الرباط؛ ولا يعرفون أنه لولا تلك البناية الغريبة التي تسمى البرلمان لكانت البلاد أقل غموضا وأكثر تقدما، فمقر البرلمان لم يكن في عهد الحماية الفرنسية سوى محكمة يدان فيها المنحرفون والمجرمون، واليوم صارت مقرا لنواب الأمة وحراس الغمة.
الرباط ليست مجرد عاصمة للإدارات والسفارات والوزارات، بل هي عاصمة للتعليم أيضا.. ففي الماضي، كان على كل طالب مغربي، يريد أن يرتاد التعليم الجامعي، أن يرحل نحو الرباط، ففيها يتركز التعليم الراقي، مثل الهندسة والطب، لذلك ضاع مستقبل أجيال كثيرة من الطلبة المغاربة الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالتنقل نحو الرباط.
في الرباط، تركزت، أيضا، كل نخب المغرب منذ الاستقلال إلى الآن، وكثيرون جاؤوا من مناطقهم الأصلية بحثا عن مكان تحت الشمس، وعوض أن يسير المغرب بعجلات كثيرة وتنمو أطرافه ومناطقه بوتيرة واحدة، فإن المغرب كبر ونما مثلما ينمو جسد مشوه، رأسه كبير جدا وأطرافه الأخرى مريضة وصغيرة ومصابة بالجرب.
لكن الرباط ليست مجرد حكومة وبرلمان وسفارات وهراوات.. الرباط في عمقها مدينة مثل غيرها، فيها الكثير من المتسولين واللصوص والمحتالين، وفيها الكثير من الدراويش الذين يلتقطون بالكاد لقمة العيش ويعيشون كما يعيش غيرهم في الدواوير البعيدة، فالرباط في عمقها دوار كبير.. دوار رسمي.