تامر وقصة قُلْ: قال.
جلس يُفكّر في عقول البشر، إذا حل الليل تراءت له الأقمار، وإن بدت له الشمس أفل النجم والأقطار؛ الخلق يسعى في الغرائب والدمار، وأحوالهم تثير الجنون والاستنكار.. هذا يعبد البقر.. وهذا الشمس والقمر.. وهذا فرعون والحجر.. ذاك يُقدّم ابنه قربانا للأنهار...
ما معنى؟
* الجهل...
* التقاليد...
* الأعراف...
لابد أن يعرف عقول البشر! ولكن كيف؟
فكّر في أن يذهب لإحدى القرى ويرمي سهم حرفين بينهم وينتظر بعد حين كيف سيصيب السهم الآذان...
حل بالقرية.. أول من صادفه قال له بطريقة خفيفة:
- قُلْ: قال.
ردّ عليه:
- هل يسكن في هذه القرية؟
قال:
- لست أدري!
ما أن جاء ليُكمل كلامه حتى التفت حوله جوقة يتساءلون عما يبحث.. نطق أحدهم:
- لو وصفته لنا ربما نستطيع أن نتعرف عليه؟
قال:
- هو إنسان جاهل، يتحول تارة إلى ذئب، وتارة إلى قرد.. إذا حل بقرية تحل المصائب بها.. ومتى قُتل يظهر بعد حين مرة أخرى...
التفتت الجماعة إلى بعضهم يتساءلون.. تركهم على حالهم وعاد من حيث أتى...
شاع الخبر في القرية.. تجند أهلها.. بادروا إلى غابتهم وقتلوا كل الذئاب.. إلا القردة لا توجد في غابتهم، ولا يعرفون صفاتها...
بدأت كلمة: " قُلْ: قال. " تتغير من حكي إلى حكي حتى تحولت إلى: " قُلقال "، ثم " قُقال "، و " قوقلّة " التي اصطلحوا عليها في نهاية الأمر فشاعت بينهم...
تغيّر الاسم كما تغيّر الحكي؛ حيث أصبح يُقال: أن رجلا يتحول إلى جميع أنواع الحيوانات، وإلى الأشجار، إذا بات في قرية يموت تلك الليلة أحد أفرادها، يُعرف بعكسيته للناس في كل ما يفعلون؛ وإذا قتل يأتي من ورائه المال والخيرات ...
تضخمت الحكاية حتى لو حكوها للجبال لانهدت.. صار لهيبها أشدّ من نار إذا تلظت...
ذات يوم، حل بالقرية مسكين يُداعب قرده الصغير من أجل كسب قوته اليومي.. التفت حوله حلقة من البشر، بدأت الفرجة.. البشر يضحك.. نادى المسكين على قرده باسمه: " قو قردة "... خيّم الصمت.. انفجرت صرخة الحلقة:
- اقتلوا " قو قلة ".
انقض البشر على القرد وقتله.. فرحوا بجريمتهم هذه.. أخذ المسكين جثة قرده الصغير وهو يبكي، وينتحب انتحاب الجاهلية.. احتفلت القرية بانتصارها على " قوقلة " وانتظروا المال والخيرات...
خرج المسكين شاردا إلى خارج القرية.. انتهى من مراسيم الدفن.. حمل حزنه وانصرف...
بعد حين من الدهر، عاد المسكين لقبر قرده وبنى عليه بناية، وجعل في سقف البناية قلة تظهر وكأنها لاصقة.. إلا أنه أحكم تركيبها وجعلها مخبأ لماله، يأتيها ليلا متسللا ويضع فيها الحصة المتوفرة...
مرت قافلة على هذه البناية... أشاعوا الخبر في القرية.. تتبع البشر أثر الخبر.. تطور الأمر... كبرت البناية.. أصبحت زيارة البناية أسبوعيا إلى " قوقلة "... ثم نظموا موسما سنويا عظيما...
لقد تطورت الأمور.. أصبح العطار غنيّا.. متى توفي أحدهم يظنون أن " قوقلة " بات تلك الليلة في قريتهم.. متى جرح عود شجرة أحدهم يقتلعونها ويحرقونها...
برز أحد المفكرين.. وقال لهم:
- إن كلمة " قوقلة " لا أصل لها في لغتنا.. إن هناك تحريفات من أجل ضرب مقدساتنا... والحق حق أن يُقال؛ يجب أن نقول: " أبو قلة "؛ والدليل على ذلك: القلة التي في سقف البناية.. إنها ترجع إلى عهد الكلدانيين... صفق الجمهور، اصطلحوا على " أبو قلة "...
اجتمع البشر في البناية ليوم الزيارة.. كانت القلة قد امتلأت عن آخرها.. بينما هم في خشوع ووقار... فجأة انشقت القلة وتبعزقت النقود.. تحولت البناية إلى مصرع الثيران.. انقسموا إلى ثلاث: قسمة نقلت إلى المستشفى، وقسمة إلى السجن، والباقية إلى القبور...
مر الزمان.. عاد إلى القرية ليستقصي خبر السهم كيف اخترق الأجواء.. سأل أحدهم.. وبدأ يحكي له القصة حتى كادت بنيته أن تتهدم... قرر أن يُخبر الناس بالحقيقة.. اجتمع الناس.. اعتلاهم فوق صخرة وخطب عليهم:
- أيها الناس! إن " أبو قلة " هذا ليس سوى قردا... والقصة أنا الذي أعطيت انطلاقتها، والعقدة ما صنعت أيديكم.. وجئت اليوم لأقفل هذه القصة... أنصحكم أن تهدموا هذه البناية...
لم يكمل كلامه حتى صرخ البشر:
- اقتلوا " قوقلة " إنه عاد...
فر بجلده فنجا، ما عدا طوابع حجرية رسمت آثارها على جلده...
طوى تامر القصة، أعادها إلى الرفوف، فتح سجل القصص ليُدوّن مغزى هذه القصة، والحكمة التي استنبطها منها... شكر الكاتب ودعا له...
بقلم: محمد معمري.