قبل ظهور الاسلام بنحو ثلاثة قرون بلغ الشعر العربي ذروة الجذالة والفصاحة والفحولة والجمال.. وكان ذلك إعلانا عن أن اللغة العربية قد بلغت القمة، وها هي تستعد لاستقبال القرآن الكريم، البيان العربي المعجز والمتحدي، والذي سيصبح عبر الزمان والمكان كتاب العربية الأول والتجسيد المتعالي والمتجاوز لأعلى ما في هذه العربية من مظاهر الجمال.
وإذا كان الشعر هو الاسم الموسيقي الناطق الذي يعبر بالصور عن المشاعر والقلوب والضمائر والأحاسيس فإن الشعر الجاهلي قد بلغ القمة في أساليب التعبير عن أحاسيس الشعراء الذين كانوا اللسان المعبر عن الحياة العربية، وقيمها وعقائدها، وما لقبائلها وحواضرها من أعراف وعادات وتقاليد.
ولأن الجاهلية العربية في جملتها كانت من فترة الشرك فيها هو محور الاعتقاد الديني وليس لدى أهلها وعي إلهي ولا شريعة سماوية اللهم إلا بقايا متناثرة وغامضة من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام – كانت مضامين الشعر الجاهلي – مع جمال الشكل المعبر هي مزيج من الحكمة والشجاعة والكرم والمروءة والإنسانية والتكافل وصيانة الحرمات وإشارات إلى التوحيد الديني ومزج هذه المعاني النبيلة مع كثير من أعراف العداوة والعداء والعدوان والإغارة والسبي والنهب واستحلال الحرام والفخر بالظلم والجبروت والانتهاك لحرمات الآخرين..
أي أن وفرة الجمال في هذا الشعر الجاهلي قد صاحبتها في أحيان كثيرة المضامين الهابطة الفاسدة والضارة التي لا تنضبط بمعايير الحلال والحرام والمقبول والمرفوض كما تزكيها الفطر السوية وتضبطها منظومة القيم والأخلاق.
ومن يراجع نماذج عيون الشعر الجاهلي.. وفي مقدمتها معلقة أمرئ القيس ( 130-80هـ/479-545م) يجد مصداق هذا التحليل: قمة الجمال في التعبير والتصوير لمضامين هي مزيج من قيم الكرم والبطولة والفسق والخنا والفجور.
فلما ظهر الاسلام وصاغ بقيمه وجدانات الجماعة المؤمنة والجيل الفريد الذي أزال القوى العظمى – الروم والفرس – وحرر الأوطان والضمائر وغير اتجاه التاريخ ومهد الإشعاع الحضاري.. لما حدث هذا الإنجاز الأعظم في تاريخ العرب والشرق والإنسانية، انتهى ذلك الفصام بين جمال الشعر وبين الهبوط والانحراف في المعاني والمضامين..
لقد أنعش القرآن الكريم وزكى قيم الجمال في الشعر العربي وأسهم في توسعة الآفاق أمام آيات هذا الجمال..
لأن القرآن الكريم هو الكتاب الجميل، الذي يعلم قراءه وحفاظه ومتدبريه آيات الجمال وأجمل الصور في التعبير عن مظاهر الطبيعة ومكنونات الضمائر والنفوس وخطرات القلوب..
إنه الكتاب الذي يعبر بالصور عن أعقد المعاني الفلسفية والحقائق العلمية والخواطر النفسية.. بل لقد عبر بالصور حتى عن حقائق عالم الغيب التي لا تدرك كنهها الحواس والعقول.. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) {سورة إبراهيم 24،25} .. (ولَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) {سورة لقمان 27}.. (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْـهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ (264) ومَثَلُ الَذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإن لَّمْ يُصِبْهَا وابِلٌ فَطَلٌّ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) {البقرة 264-265} ..